د. خالد محمد الصغِّير
وبعد أن تم في القسم الأول من المقال استعراض بعض من العقبات التي جعلت الأقسام العلمية في الجامعات تتحرك فقط في نطاق تسيير العمل الإداري المعتاد على حساب مجالات أخرى أهم وأجدر يحسن بنا أن نعرج على مسارات الحراك التطويري المنشود الذي يجب أن تسعى له الأقسام العلمية والمتمثلة
في محاور الخطط والبرامج الدراسية، واستراتجيات التعلم والتعليم، والجودة التعليمية والاعتماد الأكاديمي، والعمل الإداري والتنظيمي، والبيئة البحثية، وخدمة المجتمع.
إنًّ المسار الأول يتطلب إخضاع برامج وخطط الأقسام للمراجعة المستمرة الدائمة، وإجراء غربلة حقيقية لبرامجها ليتم صياغتها في ظل إمكانات الجامعات وتطلعاتها لكي تواكب وتستجيب لمتطلبات واستحقاقات المرحلة الراهنة. ويأتي على رأس أولويات السعي في التحديث المستمر الدائم لبرامج الأقسام العلمية إيجاد توصيف علمي كامل لمكونات البرنامج الأكاديمي في القسم العلمي، وشرح واف للمواد المقدمة، ومتطلباتها، ومكوناتها، وآلية تنفيذ ذلك كله على أرض الواقع الأكاديمي المعاش، وتوخي المعايير العلمية في تصميم المقررات التعليمية وإنتاجها، وجعل الخطة جاذبة لاستقطاب الطلبة المتميزين للالتحاق بالقسم. وبدون توفر ذلك كله لا يمكن أن تحقق الأقسام العلمية تقدماً نظراً لمراوحتها في مكانها في خططها وبرامجها، ولأنها بعملها هذا قد هيأت الأجواء لشيوع قدر كبير من الارتجالية والعشوائية في بناء عناصر مكونات مناهجها والتي هي ناتج طبيعي لعدم وضع أطر رئيسية عامة لها من قبل القيمين على تسيير دفة العمل في الأقسام العلمية.
والجانب التطويري الآخر الذي يجب أن يكون محل عناية واهتمام الأقسام العلمية والمتمثل في استراتيجيات التعلم والتعليم يتطلب بدوره سعياً حثيثاً لتنمية مهارات أعضاء هيئة التدريس بما يحقق التميز والإبداع في التعلم والتدريس، ويساهم في الرفع من قدراتهم، وإمكاناتهم العلمية بشكل يجعلهم قادرين على تبني الطرق والوسائل التي تنادي بها الدراسات التربوية الحديثة، وممتلكين لمهارات التطوير الذاتي والتخصصي. ويمكن تحقيق وذلك من خلال تمكنيهم من حضور دورات في التدريس الفعال، ومصادر التعلم، واستخدام التقنية في التعليم، ومهارات التفكير، والتقويم والقياس، وتصميم المناهج إلكترونيا، وكيفية عمل توصيف برنامج ومقررات أكاديمية، وغيرها من الدورات التدريبية التربوية. وذلك يمكن أن يتم كذلك من خلال تصميم وبناء خطط تربوية تطويرية دائمة قصيرة وطويلة المدى لأعضاء هيئة التدريس بشكل يؤدي لرفع الأداء والكفاءة لدى أعضاء هيئة التدريس بالقسم، وفي الوقت نفسه يتطلب ذلك أيضاً ضرورة بناء نظام فعّال لتقييم أعضاء هيئة التدريس، إلى جانب وضع نظام لمتابعة النمو المهني لعضو هيئة التدريس.
والشق التطويري الآخر من استراتيجيات التعليم والتعلم يحسن أن يكون التركيز فيه منصباً على تبني خطة للاستفادة من الإمكانات التي يتيحها التطور التقني، والعمل على تحويل محتويات المقررات الدراسية المعتمدة في القسم إلى محتوى إلكتروني من خلال الاستعانة ببيوت الخبرة المحلية والعالمية التي لها باع في هذا المجال، والاستفادة من الخدمات التي تقدمها مؤسسات إلكترونية تقدم خدمات تيسير عملية إدارة محتوى التعلم، والعمل على تجهيز قاعات المحاضرات بأحدث الوسائل التعليمية الحديثة، وتوسيع مجال استخدامها الفاعل في التدريس، والاستفادة الكاملة منها.
ويمثل محور الجودة التعليمية والاعتماد الأكاديمي بعداً آخر يجب أن تسعى الأقسام العلمية للبحث في كل ما يمكن أن يسهم في رفع المستوى التعليمي بشكل يتوازى مع معايير الجودة وبالتالي الحصول على اعتماد أكاديمي عالمي. وذلك يتم تحققه من خلال محاولة القسم الجادة اعتماد معايير الجودة المعتمدة في الجامعة، و توقيع اتفاقيات مع هيئات عالمية من أجل الحصول على اعتماد أكاديمي، ووضع نطام للتقييم والمراجعة الدورية والسنوية للبرامج، ووضع نظام للتقييم والمراجعة السنوية للمقررات الدراسية. ويمكن أيضاً تحسين الجودة التعليمية بعدد من الإجراءات الأخرى التي من بينها استقطاب عدد من العلماء البارزين، أو الباحثين المميزين للانضمام للقسم، وبناء شركات وتحالفات مع الأقسام المتميزة في الجامعات العالمية، وتخصيص جائزة التميز لعضو هيئة التدريس، والباحث، والطالب المتفوق، وإنشاء مجلة علمية محكمة تعنى بنشر البحوث والدراسات المتخصصة، وإنشاء مركز لبيع الكتب المتخصصة وذلك بالتعاون مع دور النشر المحلية والعالمية.
ولا يقل عن ذلك العمل على تطوير العمل الإداري والتنظيمي داخل الأقسام العلمية من أجل تحسين الخدمة التعليمية التي يقدمها القسم. ويتطلب ذلك عمل دليل إجرائي، والعمل على هيكلة العمل الإداري داخل الأقسام العلمية، وإنشاء قاعدة معلومات يتم من خلالها تجميع وتبويب وحفظ كافة المعلومات التي تساعد القسم في أداء مهامه بصورة مهنية عالية بما في ذلك إنشاء قاعدة بيانات لأعضاء هيئة التدريس، ونظام متابعة لمبتعثي ومبتعثات القسم، وإعداد التقارير الدورية والسنوية عن عمل القسم، والسعي لإيجاد الكوادر المؤهلة للعمل بالقسم العلمي، وجدولة مشاريع القسم وإسنادها للكفاءة من أعضائه، ومد جسور التعاون مع الأقسام العلمية المماثلة مما يتيح تبادل الخبرات الإدارية التعليمية. إضافة إلى العمل على القيام بدراسات دورية عن توجهات طلبة القسم، وتوفير قاعدة بيانات عن الخريجين وأماكن عملهم، وخلق فرص للتغذية الراجعة منهم. ولعل الحديث عن هذا الجانب يقود إلى ضرورة أن تكون قرارات الأقسام العلمية نافذة لا مجرد توصية، وأن يناط بمناقشة قراراتها مجالس معتمدة، لا أشخاص يعملون على التدخل في التعيين، والقبول، والابتعاث، واستصدار القرارات المناطة بها من قبلهم، وأن تتبنى الشفافية منهجاً في تطبيق اللوائح والأنظمة بشكل عادل ومتساو.
وتهيئة بيئة بحثية مناسبة متكاملة بالطبع لا يقل أهمية عن المحاور السابقة؛ لأن العمل على تأسيس مراكز بحثية منطوية على رؤية إستراتيجية ذات برامج و أهداف واضحة ومحددة يمنح أساتذة القسم قناة يتبادلون من خلالها المعرفة، ويجعلهم يساهمون بفعالية في تعزيز الإنتاج المعرفي في الحقل، كما أن ذلك يعمل على تعزيز الجودة البحثية لدى أعضاء القسم، ويمكنهم من النشر في أوعية النشر العلمي المتميزة، والعمل على إتاحة زيادة فرص المشاركات الخارجية لأعضاء هيئة التدريس. خدمة المجتمع أيضاً مناط آخر يجب أن يحتوي على اهتمام الأقسام العلمية في مؤسسات التعليم العالي ويمكن أن يكون ذلك من خلال تأسيس مركز خدمة المجتمع يقدم خدمات استشارية للقطاعين العام والخاص، وإقامة ورش عمل ودورات تدريبية، وندوات علمية، ومؤتمرات. وكذلك تقديم حلول علمية، ومقترحات قابلة للتطبيق لاحتياجات المجتمع، ومشاكله، ومشاريعه التنموية.
وفي الختام أتمنى أن تمثل هذه الرؤى والإلماحات بداية حركة تصحيح شاملة لمسار الأقسام العلمية في مؤسسات التعليم العالي بحيث تكون المحاور التي تمت الإشارة إليها آنفاً هي التي تأتي في صدارة اهتمامها، وتتوارى معها إعارة الأمور الثانوية مركز الثقل ومناط العمل فيها وذلك من أجل تعزيز إمكانات الأقسام العلمية في الجامعات، وتطوير استراتيجيات التعليم والتعلم، والرفع من كفاءة بيئة العمليات التعليمية، بما يخدم في نهاية المطاف العملية التعليمية.