منذ صدور الأمر الملكي بدمج وزارتي التعليم العالي ووزارة التربية والتعليم في وزارة واحدة بمسمى وزارة التعليم، ومجتمع التعليم العالي يكاد يجمع على أن الوزارة الوليدة ستزف استقلالية الجامعات، لكي تنطلق نحو الإبداع والتفرد والمنافسة بشكل أكبر محليا وإقليميا وعالميا، هذا الإجماع على قرب أو ضرورة استقلالية الجامعات يثير أسئلة كثيرة وملحة ومنها على سبيل المثال ماذا نعني بالاستقلالية؟، وهل الاستقلالية هي التي ستحل مشكلات التعليم العالي أو ستزيد أوجاعه؟ وهل الجامعات تستطيع أن تكون مؤسسات مستقلة في الوقت الراهن؟.. وغيرها من الأسئلة الأخرى، ولعلي في هذه المقالة أحاول أن أجيب عن بعض منها ولو بشكل مقتضب، فالاستقلالية تعني أن تكون المؤسسة التعليمية لديها القدرة المالية والإدارية والأكاديمية التي تمكنها من التخطيط والتطوير والتشغيل الذاتي ضمن نظام محاسبي ورقابي دقيق، وبهذا المفهوم فإن الاستقلالية تتطلب في المقام الأول توفر موارد مالية كافية يمكن استثمارها وتنميتها ويكون عائدها السنوي يغطي الموازنة السنوية للمؤسسة على الأقل، حيث تعتبر الموارد المالية واحدة من أهم الركائز لاستقلالية الجامعات، ولعل التعليم العالي الأهلي أقرب مثال، حيث لم يستطع النهوض بهذا الشكل إلا بدعم الدولة من خلال برامج الابتعاث الداخلية والقروض الميسرة من الصناديق المختلفة، ولو توقف دعم الابتعاث الداخلي لانهارت الكثير من مؤسسات التعليم الأهلي الحالية أو اقتصرت على التخصصات قليلة الكلفة، حيث إن التخصصات النوعية مكلفة جدا.
ولو تتبعنا موازنات الجامعات السنوية نجد أنها تتراوح بين مليار وقد تتجاوز 10 مليارات في بعض الجامعات، وهذا يعني ضرورة وجود أصول واستثمارات ضخمة تصل لمئات المليارات توفر عوائد وسيولة مالية سنوية لتشغيل وتطوير الجامعات، وهذا يقودنا للسؤال الأهم من سيقدم هذه المبالغ؟، هل ستقدم الدولة الموازنة السنوية للجامعات؟، أم هل سيتحول التعليم الجامعي الحكومي إلى تعليم جامعي شبه أهلي؟، أم هل ستقوم الدولة بخصخصة التعليم الجامعي وتحويله للاكتتاب العام؟ وبالتالي التحول من الجامعات غير الربحية إلى جامعات ربحية يكون همها زيادة رأس مالها وتغطية موازناتها التشغيلية، وغيرها من الأسئلة الكثيرة.
وإذا أردنا أن نتحدث عن الاستقلالية الإدارية والأكاديمية لا بد من تحديد ما هي أهم المعوقات في التعليم العالي وما هي أسبابها وكيفية التغلب عليها لتكون الحلول مواكبة لها، ففي ظل الأنظمة واللوائح الموحدة للجامعات تحتاج الجامعات إلى موافقة جهة أخرى (مجلس التعليم العالي سابقا وربما مجلس الاقتصاد والتنمية حاليا أو وزير التعليم) في عدد من الأمور الأكاديمية مثل استحداث العمادات والكليات والمعاهد والأقسام العلمية والمراكز المتخصصة، وكذلك تكليف وكلاء الجامعات والتمديد لأعضاء هيئة التدريس ممن تجاوزوا سن التقاعد النظامي (60 سنة)، كما تحتاج الجامعة إلى موافقة الوزير المختص في تعيين عمداء الكليات والعمادات المساندة وإقامة المناشط المختلفة من مؤتمرات وندوات وغيرها ومشاركة أعضاء هيئة التدريس في المؤتمرات الخارجية، وفي الأمور المالية تحتاج إلى موافقة الوزير على توقيع العقود التي تزيد مبالغها على حدود صلاحيات مدير الجامعة، هذه أهم الأمور التي تعود فيها الجامعات إلى سلطات أعلى في اتخاذ القرار، بالإضافة إلى بعض اللوائح التي قد تكون مقيدة في البحث العلمي والرواتب والمكافآت وغيرها، فهل هذا هو السبب في عدم تحقيق الجامعات لما هو مؤمل منها؟
إن المتابع للجامعات يلحظ بأن واقع الحال يشير إلى أن عددا من الجامعات السعودية حققت مراتب متقدمة في التصنيفات العالمية وأخذت مكانة جيدة في مستوى النشر العلمي في أوعية النشر المتميزة، كما سجلت الجامعات وفي فترة وجيزة مئات براءات الاختراع والاكتشافات العلمية والطبية المميزة، وهي مؤشرات لإمكانية الإبداع والتميز في ظل التنظيمات الحالية، كما أن قبول أكثر من 150 ألف مبتعث من خريجي الجامعات السعودية في جامعات عالمية مؤشر آخر لهذا النجاح، ولاستمرار هذا الإبداع لا بد من توافر موارد مالية ورؤية واضحة ومرونة وجرأة في اتخاذ القرار، وهذه في رأيي خلطة النجاح.
وبالتالي فإن الاستقلالية في الجانب الإداري والأكاديمي قد يكون أكثر يسرا وتهيئة، وذلك من خلال وضع أطر عامة لمؤسسات التعليم العالي أو تفويض الصلاحيات فيها للجامعات في اتخاذ القرار وبالتالي تحقيق المطلوب في وقت قياسي، إلى أن تقوم الجامعات بتطوير لوائح وأنظمة داخلية لآليات اتخاذ القرار داخل المؤسسة دون الرجوع لجهات أخرى، وهذا ربما يكون ممكنا خلال فترة وجيزة في الجامعات ذات الخبرة الطويلة ولكنه في الجامعات حديثة التأسيس قد يكون العكس، وبالتالي التفاوت سيكون كبيرا بين مؤسسة وأخرى وربما يجهض البعض هذا التحول بشكل سريع، وهذا يعني ضرورة توافر الكفاءة الإدارية والأكاديمية التي تستطيع دفع الاستقلالية إلى النجاح.
الاستقلالية بلا شك تقود إلى خلق جو من الإبداع والمنافسة بين الجامعات ومحاولة التفرد في مجال أو أكثر، وكذلك انعتاق الجامعات من النسخ المكررة، إلى جامعات متخصصة ذات هوية واضحة، مثل جامعات العلوم والتكنولوجيا والجامعات الطبية والجامعات الهندسية والتطبيقية والجامعات الشرعية والجامعات البحثية وغيرها، وهذا سيكون له مردود إيجابي في تشكيل سوق العمل السعودي وتوجيه التنمية نحو مجالات جديدة وتخصصات نوعية، ولكن الاستقلالية الكاملة التي تحقق هذا التوجه غير مكتملة الأركان في الوقت الراهن، لصعوبة تحقيق الاستقلال المالي وهو المحرك الأهم في استقلالية الجامعات ولقلة الخبرة في كثير من الجامعات حديثة التأسيس، وربما التوجه نحو الاستقلالية الجزئية المتدرجة هو أحد الحلول في الوقت الراهن من خلال تطبيق الاستقلالية بشكل متدرج على مجموعة من الجامعات، بحيث تُمارس فيها الاستقلالية الإدارية والأكاديمية كمرحلة أولى مع تنمية الموارد المالية للوصول إلى الاستقلالية الشاملة، بحيث تحظى هذه الجامعات بمرونة عالية في استحداث اللوائح والأنظمة التي تدعم التميز والإبداع ودعم البحث العلمي الرصين وتحفيز المبدعين عن طريق تطبيق نظام تعاقدي مع موظفيها واستحداث سلالم رواتب ومزايا منافسة وإعادة هيكلة للتخصصات بشكل يتوافق مع التنمية ويخدم التوجهات الاقتصادية المستقبلية وغيرها، والاستفادة كذلك من تجربة جامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا في هذا الجانب، وبعد ذلك يكون التطبيق على باقي المؤسسات بشكل مرحلي بناء على معايير محددة يمكن التوصل لها من تجارب الجامعات السابقة، كما يحتاج الاستقلال المالي إلى مشاركة الدولة في المرحلة الحالية بدعم وتشجيع إنشاء الأوقاف للجامعات والمحافظ الاستثمارية ودعمها ماليا وتنظيميا لتكون الممول لهذه الجامعات في المستقبل وترسيخ فلسفة التشغيل الذاتي للجامعات وتنمية الحس الاستثماري فيها.
د. عبدالعزيز بن عبد الله الحامد - وكيل جامعة سطام بن عبدالعزيز للدراسات العليا والبحث العلمي