د. محمد عبدالله العوين
كانت مقاومة التحديث في بلادنا منتصف القرن الهجري الماضي وما بعده إلى نهاية القرن تكاد تنحصر في فئة قليلة جداً ترى في الطارئ كله خطراً على القيم والأخلاق، وتميل إلى المحافظة على الموروث من العادات والتقاليد والمألوف الذي درج عليه الآباء والأجداد ولا ترى في الجديد كله إلا خطراً يهدد بانفلات الأجيال من الأخلاق الفاضلة الكريمة، وقد اتكأ أنصار هذا التيار على الانقياد لأسر العادة إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ أو على القراءة غير الواعية في كتب السلف والتلقي منهم وحفظ بعض النصوص والمقولات دون تمحيص أو مقدرة على التفكير والاجتهاد أو المقارنة، أو على ما أثر عن بعض أولئك المحافظين المقلّدين من آراء أو مواقف متشددة تجاه ما جد على حياة آبائنا من وسائل وأساليب العصر؛ كأساليب التعليم الحديثة ومناهجها وعلومها، وكالبرقية واللباس العسكري والسيكل والراديو والتلفزيون والتصوير وتعليم البنات والابتعاث والتواصل مع الحضارات والثقافات الأخرى وغير ذلك، وليس هذا الموقف غريباً أو بعيداً عن توقع حدوثه؛ فمثل ذلك وقع في دول عربية كثيرة في بدء أولى خطوات تحديثها؛ كمصر وتونس والجزائر والمغرب وغيرها، ولكن حدة المواجهة تختلف وتتفاوت؛ بل إن الرفض للتجديد والانحياز إلى القديم لم يكن سمة عربية فحسب؛ فقد حدثت مواجهات من التيارات المتشددة المحافظة في أووربا مع المفكرين الذين أظهروا رؤى جديدة متحررة، وأحرقت أمام الكنائس في العصور الوسطى مؤلفات لمفكرين وأدباء كثيرين؛ ولعل إحراق ديوان «أزهار الشر» للأديب الفرنسي شاهد على غلواء الاتجاهات المحافظة في فرنسا في مرحلة ما قبل عصر النهضة.
وفي الحضارة الإسلامية القديمة تواجهت تيارات الانزياح إلى الجدة مع التمسك بالمألوف حتى إبان ازدهار العلوم والمعارف وتوهجها؛ وكأنها نزعات الرمق الأخير للتيار المحافظ متوسلاً بأسباب دينية واضحة أحياناً أو محققاً أغراضاً سياسية يتغياها الحكام؛ تكسباً لرضا العامة، وفي التاريخ العباسي والأندلسي شواهد على ذلك.
ليس غريباً أن تبدو آراء متشددة أو أن ينشأ تيار غال في بلادنا؛ ففي بلدان الدنيا كلها الإسلامية وغيرها جماعات تنطوي على نفســــها وتعيش كما تريد مختارة أساليب الحياة القديمة الموروثة كما في إحدى الولايات الأمريكية؛ فلا تركب السيارات ولا تستخدم الكهرباء، ولا تعلم أبناءها في المدارس، ولا تلبس الأزياء الحديثة، ويعلم بعضنا عن جماعة في إحدى مدن نجد - لعلها انقرضت - كانت لا تصلي في المساجد التي بنيت على الطراز الحديث، ولا تتعامل بالنقود، بل بالعين، ولا تركب السيارات؛ بل على الخيول أو الحمير، ولا تسير على الإسفلت، ولا تعلم أبناءها في المدارس، ولا تستخدم أدوات التواصل الحديثة كالتلفزيون أو الراديو أو الصحف، وقد لا تشكل مثل هذه الجماعات خطراً على الدولة أو المجتمع حين تكون مختارة نمط الحياة وفق رؤيتها دون أن تسعى إلى فرضه على غيرها بالقوة، فتتحول من جماعة أو أفراد زاهدين في الحياة الحديثة إلى تنظيم مسلح رافض يسعى إلى فرض أجندته على الدولة والمجتمع كما كان شأن جماعة «إخوان من طاع الله» التي قضى عليه الملك عبد العزيز - رحمه الله- في معركة السبلة عام 1347هـ بعد مفاوضات ومحاورات مضنية لإثنائهم عن مواقفهم المتشددة دون جدوى، أو جماعة «جهيمان» التي عرفت بالجماعة السلفية المحتسبة أو أهل الحديث التي تمردت وأعلنت العصيان في الحرم الشريف بتاريخ 1-1-1400هـ وقضت عليها الدولة في مهدها.
لا غرابة أن يحدث رفض للجديد من فئة محدودة، أو أن يتباطأ مجتمع في قبول ما يطرأ مما لم يكن مألوفاً؛ فطبيعة النفس البشرية تحن إلى ما ألفته ولا تتنازل عمّا اعتادته إلا بمشقة كبيرة؛ ولكن الخطر الأكبر الداهم حين توقف الرؤى الرافضة نبض الحياة، أو تكون عقبة كأداء أمام التنمية.