محمد بن عيسى الكنعان
دار حديث بيني وبين بعض الإخوة على خلفية ظهوري على شاشة قناة (الرسالة)؛ للتحاورحول واقع ممارسات الحوار في واقعنا السعودي، خاصة أن الحوار قيمة إنسانية، ومؤشر حقيقي للمستوى الحضاري الذي يتمتع به أي مجتمع. وقد كانت فكرة ذلك الحديث تدور على مدى تأثير أعمال (الحوار الوطني) في أوساط مجتمعنا
من عامة وثقافية وإعلامية وغيرها، لأن الصورة الظاهرة في منتديات (الإنترنت)، أو موقع التواصل الاجتماعي؛ كشفت أن لدينا أزمة حقيقية بهذا الجانب تحديداً، وأن مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني لم يحقق النجاح المنشود بعد.
من وجهة نظري المتواضعة، التي ذكرتها، سواءً عبر قناة (الرسالة)، أو خلال نقاشي مع أولئك الإخوة الكرام؛ أنه من الخطأ الحكم السلبي على جهود مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني بهذه السطحية، مهما كانت نتائج تلك الجهود، فلابد أن نعي ابتداءً ثلاث مسائل لإصدار أحكامنا، الأولى أن العمر الزمني للمركز لم يتجاوز 12 عاماً، فقد تأسس العام 1424هـ في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد -يرحمه الله-، وهذه السنوات ليست كافية لإحداث تغير جذري في المجتمع؛ من حيث تكريس قيمة الحوار في كل مستوياته. والمسألة الثانية أن طبيعة المركز تتصف بـ(الرسمية)، وتجري فعالياته تحت مظلة الدولة، ما يعني أن له إطارا معينا ورؤية واضحة وأهدافا محددة، وهو يعمل بطريقة لابد أن تنسجم فيها أهدافه مع التطور المجتمعي والتنمية الوطنية على درب الحداثة. لذلك فـ(المركز الوطني) للحوار ليس مدرسة تعليم وتلقين، ولا مركز تدريب بشكل محدد، إنما هو أشبه ما يكون بملتقى حضاري، أو منتدى فكري تجتمع فيه نخبة المجتمع، أو من يعبّر عن شرائحه، بحيث يتناقشون وفق مرجعية فكرية ومعرفية معينة، وأطر محددة حول قضية اجتماعية أو تنموية أو إنسانية، للخروج بتوصيات إيجابية يمكن بلورتها إلى أفكار ومشاريع وطنية معينة، بما ينعكس إيجاباً على تحسين المجتمع وتقدم الدولة واستمرار نهضتها. ولهذا فاستمرار لقاءات الحوار الوطني ومناقشة القضايا الطارئة والملحة؛ يُسهم بطريقة غير مباشرة في تكريس مفهوم الحوار بين الناس، وهنا تأتي القيمة الحقيقية للمركز. بحيث يعتاد الجميع لغة الحوار لمناقشة قضاياه. لأن هناك حوارات أخرى سوف تنشأ خارج أروقة المركز كصدى للنقاشات التي تمت في لقاءاته الحوارية.
أما المسألة الثالثة وهي الأهم بنظري أن مهمة المركز تبدو صعبة، وثقيلة وتحتاج نفساً طويلاً؛ لأنها تقوم على إحداث تغيير جذري في بنية الوعي لدى المجتمع بشكل كامل، ما يعني أنها تحتاج أولاً للوقت الكافي، وأيضاً لدعم ومشاركة كل الجهات المؤثرة في العقلية الاجتماعية، لتعزيز تلك المهمة النبيلة، وأقصد بذلك المدارس، عن طريق المناهج، والمساجد عن طريق الخطب، والإعلام عن طريق البرامج الحوارية وغيرها، بحيث تشكل منظومة فاعلة تدعم مركز الحوار الوطني، ليتم ترسيخ مفهوم الحوار، كقيمة في وجدان الفرد، وممارسة يومية، تتحول إلى سلوكيات في كل تفاصيل حياتنا.
لكن الإشكال؛ أن ما يزيد من صعوبة مهمة (الحوار الوطني)، وجود حوارات مماثلة على ساحتنا المحلية، ولكنها لا تتصف بالرسمية أو تحكم حركتها قيود وضوابط معينة، تلك الحوارات تركت نظرة سلبية عن المجتمع السعودي، وكيفية تعامله الحواري مع نفسه، وأقصد بهذا نوعين من الحوار الاجتماعي، وهما (حوار العامة)، الذي يتسم بـالشعبية؛ لعدم التزامه بضوابط محددة، كما يفتقر لمرجعيات معينة، لكنه يكشف بشفافية وصدق عن أفكار وآراء شرائح عديدة عن مجتمعنا السعودي أبرزها الشباب، رغم أنها حادة في بعض الأحايين، وربما متمردة، وميادين هذا الحوار من خلال المجالس الاجتماعية، ومواقع التواصل والمنتديات الحوارية والثقافية على شبكة (الإنترنت). والنوع الآخر هو (حوار النخبة)، الذي يدور بين شخصيات نخبوية، من مشايخ ودعاة، وكتاب رأي، وإعلاميين، وطلبة علم، وأساتذة جامعات، ومثقفين وغيرهم من مختلف التيارات الفكرية، خصوصاً التيار الديني، وما يمكن وصفه بـ(التيار الليبرالي). ميادين هذا الحوار هي وسائل الإعلام المختلفة، وبالذات الصحافة، والقنوات التلفزيونية إلى جانب مواقع التواصل الاجتماعي. هذا الحوار النخبوي يبدو اليوم في واقعنا السعودي، حواراً ساخناً، ولكنه غير مثمر، لأنه تحول من حوار تحري الحقيقة والبحث عن المعلومة وتحقيق القيمة، إلى تصفية حسابات، وتصنيف غير راشد للوطنية، وهو أقرب للاتهام.
لذلك؛ فلو سألتني كيف تقوّم هذه الحوارات الثلاثة بكلمة؟، لقلت: الحوار الوطني (منضبط) وفيه بقية أمل لذا يحتاج للوقت، والاجتماعي (مفتوح) ويحتاج للرصد والمتابعة والتوعية، والنخبوي (محتقن) ندعو له بالرشد. وأن يعي المتحاورون على مائدته أن الأفكار هي مادة الحوارات عموماً، وكون الأفكار متجددة فالحوارات متواصلة، لهذا من الطبيعي أن تكون تعددية الأفكار وتعارضها ظاهرة واضحة بين المتحاورين، المهم أن يلتزموا بمرجعية الدولة وثقافة المجتمع، خصوصاً أنه مجتمع يتسم بالمحافظة، ويعيش في ظل دولة لها مرجعية إسلامية واضحة، وكان لسنوات طويلة مغلقا على نفسه، حيث كانت ميادين الحوار المتاحة لا تتجاوز: (الصحافة، وشاشات الفضائيات، والأندية الأدبية والصالونات الثقافية)، أما اليوم فقد تهيأت له الفرصة التاريخية، بوجود أكثر من مسار للحوار، سواءً بتبني الدولة لهذه القيمة الإنسانية، من خلال مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، أو في التقدم المذهل بوسائل التقنية وثورة الاتصالات وتقنية المعلومات، التي أوجدت ملتقيات عديدة للحوار، كمواقع التواصل الاجتماعي (تويتر أو الفيس بوك أو اليوتيوب أو غيرها)، وهي متاحة للجميع وسريعة وسهلة التعامل، المهم أن نكون حضاريين في حواراتنا مع أنفسنا قبل الآخر.