عبدالعزيز السماري
تشترك دول العراق وسوريا وليبيا في قيام حروب أهلية طاحنة على أراضيها، تكاد تقضي على الرطب واليابس، وتتسم بعدم أخلاقياتها، وبإحراقها لخطوط الرجعة إلى طاولة المفاوضات، بسبب خروجها التام عن قواعد اللعبة السياسية، أو الحرب من أجل الوصول إلى مرحلة توافق بين الأطراف من أجل مصلحة البلاد، وقد طالت كوارثها الأبرياء والأطفال والشيوخ، وأصبحت مصدراً للمشاهد الدموية والتصفية العرقية والطائفية، ولنا أن نتساءل عن أسباب انتقالها إلى هذه المرحلة من الدموية والانتقام والظلم.
ولو حاولنا أن نرسم خريطة لأشد الدول معاناة من الاستبداد في العقود الماضية لنالت هذه الدول المراكز الأولى بدون منازعة، فقد كانت الأنظمة الحاكمة في العراق أثناء حكم صدام حسين وبعده، وفي سوريا، وفي ليبيا، تحكم شعوبها بوحشية ودموية، والتي وصلت إلى درجة إحراقهم بالمواد الكيماوية، وإلى التصفية العرقية، وقبل ذلك إلى إهانة الكرامة الإنسانية بدرجة غير مسبوقة، مما ولد فئات من المسحوقين والمظلومين في المجتمع، وكان خروجهم من زمن الاستبداد المرير مؤلما، ووصل إلى حد درجة المماهاة والتوافق مع فكر وأساليب المستبد السابق، وكانت النتيجة ما نشهد عليه من مذابح وقتل جماعي ودموية طاغية.
في العراق تبدو الصورة في غاية الوضوح، ولعبت الولايات المتحدة الأمريكية دوراً في ذلك، فقد كان الشيعة العرب مضطهدين أثناء حكم صدام حسين، وعندما تم إزاحة صدام حسين من الحكم، تم إرساء قواعد للطائفية السياسية في العراق من قبل المحتل، واستلم المضطهد السابق السلطة، ليتحول إلى تسلط طائفي وحكم طاغ، ويشترك في كثير من السمات مع النظام السابق، وتم قمع السنة وتهجيرهم، وكانت النتيجة ما نشاهده في العراق من طغيان من كل الطرفين، ولو كان المحتل الأمريكي يريد خيراً للبلاد، لتم تقنين الساحة السياسية على أساس غير طائفي ، ولفرض الحكم المدني الذي يجرم تناول السياسة من خلال الطائفة والعرق.
قد تختلف مسببات الطغيان الشعبي بعد إزاحة الدكتاتور في ليبيا وسوريا، لكنها تتفق أنها نتيجة وليس فطرة بشرية، وإن الشعب الذي عانى من حاكم مستبد، يتحول بعده إلى شعب مستبد بطبعه، ولديه القدرة في إعادة إنتاج الدموية والاستبداد في قوالب جديدة متى ما تمكن من الوصول إلى كرسي السلطة، وعادة تكون ممارسته للقمع لا شعورية، فهو يكره الاستبداد في داخله، لكنه يمارسه في الواقع، ويدعي أنه عادل وينتقم من الظلم السابق، وتلك الصورة السيكولوجية المتناقضه تعبر عن مرض المُضطهد بسبب معاناته السابق من الاستبداد المزمن.
في صورة أخرى تساهم الشعوب في وصول الحاكم إلى درجة الطغيان والهوس بالتسلط، ويساعدها في ذلك لجوؤها إلى أساليب التملق والنفاق والمماهاة معه، وذلك مراعاة لمصالحها، ومع مرور الوقت يحدث الإسقاط ، لتصبح شخصية الطاغية جزءاً من شخصية الإنسان البسيط، ولازلت أتذكر مشهداً تم تداولة لمواطن عراقي بعد سقوط صدام، وكان يصرخ بأعلى صوته أن صدام لم يمت وسيعود، وكان المالكي يمارس تسلطه على السنة لأنه يعتقد أن جزءاً من صدام لا زال يعيش في داخلهم، لكنه لم يكن يدرك أنه كان يعبر عن الإسقاط الأكبر من شخصية صدام حسين الدموية داخله، وكان يتصرف من خلال شخصية المضطهد الذي تحول إلى طاغية بسبب ما يكتنزه عقله الباطن من اضطهاد.
من سمات العلاقة بين المستبد وشعبه عدم الاحترام، فالطاغية يحتقر شعبه الذي يحاول مماهاته في الطغيان والجهالة، وعندما يصبح التسلط سمة شائعة في المجتمع، فاعلم أن المرض بدأ ينتشر، وبدأت تظهر علاماته، ومن أجل تبسيط الصورة، تظهر أساليب الاستبداد وطبائعه في الشارع والأسواق وفي المؤسسات والأقسام الإدارية، فالمدير المتسلط يحتقر موظفيه الذين يساعدونه في مزيد من التسلط، والأب المتسلط لا يحترم أبناءه عندما يشتركون معه في ممارسة التسلط والقسوة على بقية أفراد العائلة، وإذا وصل المجتمع إلى هذه الدرجة فاعلم أن الاستبداد وصل إلى مرحلة الوباء.
خلاصة الموضوع أن التسلط والتعسف مرض خطير يصيب المجتمعات، وتظهر أعراضه بين حين وآخر، لكنه يصبح وباء عندما يمارس الحاكم التسلط والوحشية مع شعبه، أو عندما يفرض المسؤول على تابعيه أن يظهروا سمات التسلط عند التعامل مع الآخرين، عندها يحدث الإسقاط وتفسد بيئة الوطن أو بيئة العمل، ويصبح المستقبل موبوءاً بالخراب وفساد العقول، ويحتاج الأمر إلى وعي سياسي مبكر بهذا الداء، وإلى العمل على اجتثاثه من المجتمع من خلال القضاء العادل الذي لا يفرق بين كبير وصغير، ولا بين مسؤول ومواطن، والله على ما أقول شهيد.