عندما أُدرِّس طلبتي الاقتصاد أبدأ كل موضوع غالباً بضرب مثال من أنفسنا يمثل تصرفا سلوكيا وذهنيا طبيعيا يقوم به الإنسان العادي في قراراته الانتاجية ليحقق لنفسه اعلى ربح. فمثلا: لو طُلب من صاحبة مشغل نسائي توظيف امرأة عندها في المشغل ستقول «لامانع ان كانت بتغطي راتبها» وهذا التفكير الفطري البسيط هو في الواقع يشكل تقريبا ربع علم الاقتصاد الجزئي المتمثل في الانتاج عند المستوى الأمثل. وبالتالي عند الكلفة الأدنى، وبالتالي اعظم ربح يمكن تحقيقه. وهذا جميعه هو تمثيل لفلسفة الاقتصاد بأكمله. لأن هذا الفكر، اذا قام به كل افراد المجتمع وصل المجتمع الى مستوى الاستغلال الأمثل للموارد البشرية والطبيعية. فعلم الاقتصاد الجزئي هو مجرد توثيق علمي رياضي مُثبت للسلوك الإنساني في السوق. فالسوق منتهى نتائج الاقتصاد ومدخلاته، فهي تخرج من السوق وتعود اليه. ولهذا كان الاقتصاد الجزئي هو اصل علم الاقتصاد وأساسه ولم يتعداه الى الاقتصاد الكلي كعلم مستقل عنه ومؤصل الا بعد الحرب العالمية الثانية. وهذا كان كنتيجة لتوقف التجارة الدولية بسبب عدم وجود عملة دولية موثوقة بعد ان اثبتت الدول عدم التزامها بتغطية عملاتها بالذهب عند الأزمات والحروب وكذلك لفقدان بريطانيا خاصة وأوربا عموما لاحتياطياتها الذهبية خلال الحربين.
والتجارة الدولية هي من الاقتصاد الجزئي في دراساتها الاقتصادية. ولكن دخول الحاجة لعملة دولية قادرة على حمل هذه التبادلات التجارية وعلاقتها بعملات الدول الاخرى المحلية وعلاقة العملة المحلية بالانتاج في دولتها وتأثير الحكومة على الانتاج من خلال التنظيمات والضرائب والانفاق أخرج الحاجة لنظرة كلية جامعة شاملة تربط بين النقد والحكومة والعرض العام والطلب العام.
فالطلب العام والعرض العام كان ضمن دراسات الاقتصاد الجزئي وسلوك الحكومة الاقتصادي كان ضمن فلسفة السياسية وأما النقد فلم يتعد التطبيق المجرد التعاملي ولم تكن له فلسفة تأصيلية علمية خارج فلسفة الاديان والفلاسفة الاجتماعيين والفلسفة المثالية والاخلاقية.
فالاقتصاد الكلي هو دراسة تحليلية وعلاجية شاملة لجميع الانتاج الانساني السلعي والخدمي المحصور في منطقة معينة تحت ظل سياسة حكومية ونقدية موحدة. فدراسة صناعة السيارات في بلد أو في العالم أو جميع الصناعة العالمية مثلاً هي كلها حالات من الاقتصاد الجزئي. بينما دراسة اقتصاد قرية أو مدينة أو منطقة أو دولة او دول تحت سياسة نقدية وضريبية وتنظيمية موحدة هو من الاقتصاد الكلي.
وقد أثبت علم الاقتصاد الكلي أنه لا يختلف مطلقاً عن علم الاقتصاد الجزئي الراسخ منذ قرون، فكلاهما مجرد دراسة طبيب نفسي لسلوك الإنسان في غريزته التي تدفعه لتحقيق مصالحه الخاصة بتحقيق الافضل والانسب له والتي خلقها الله ضمن خلقه لكونه، فجعل غريزة الانانية الفطرية الانسانية في تحقيق الربح موافقة لخلق الله لكي يتحقق الاستغلال الأمثل لما سخره سبحانه للانسان في الأرض وفي السماء إذا ما حكم الانسان فطرته التي فُطر عليها من الظلم والاعتداء على مصالح الآخرين لتحقيق مصلحته. فاستقرت دراسات علم الاقتصاد الكلي على عدم معاندة خلق الله في الانسان والسوق والكون بتركها تتفاعل على سنن الله الكونية.
واقتصرت سياساته على تحديد العلاج اللازم لمنع الظلم والاعتداء باستخدام السلطة الحكومية والسلطة النقدية في سن الانظمة للتحفيز المنافسة الايجابية المدفوعة بغزيرة الانانية الانسانية ولمنع او تقليل المنافسة السلبية المدفوعة بغريزة الظلم.
فالتشابك والتداخل والتعقيدات بين السلوك الانساني في السوق مع فطرة البشر في تعامله مع النقد مع سلوكيات الحكومة مع الأنظمة السياسية مع النظام النقدي لمجتمع أو دولة معينة مع مدى تأثر كل ما سبق وتداخله مع المجتمعات والدول الأخرى هو محور علم الاقتصاد الكلي الذي خرج خديجا كعلم مستقل قبل نصف قرن ودخل قاعات الجامعات منذ عقود، إلا أن علم الاقتصاد الكلي لم يمر بفترة استقرار إلى اليوم.
فقد تعرض علم الاقتصاد الكلي عندما كان جنينا في أحشاء الاقتصاد الجزئي لصدمة انتاج الالة الهائل الذي خلق الطبقة الوسطى، مما تسبب في ولادته كعلم مستقل. ثم فُطم في مهده بفشل النظام النقدي المحدود القائم على الذهب مما سبب صدمة اخرى له بتغير النظام النقدي. ثم تعرض لصدمة التكنولوجيا والاتصالات التي غيرت آثار الانتاج الكلي على الاقتصاد بسبب مضاعفتها اضعافا أخرى كثيرة مما غير مقاييس الحياة الانسانية الكريمة. كما غيرت مفاهيم استقلالية النظام النقدي المحلي، فدمجته ضمن منظومة نقدية عالمية واحدة عن طريق الاتصالات والتكنولوجيا. وآخر تعديل له هو ابتكارات برناكي- رئيس الفدرالي الأمريكي- في سياساته في ضخ النقد والتعامل مع فخ الفائدة.
فعلم الاقتصاد الكلي لم يستطع ان يكتمل ويلحق بسباق التغير الهائل -الذي حدث في القرن الماضي- نسبيا الا في هذه الأزمة الاقتصادية العالمية، على انتظار فيما تأتي به الأيام من صدمة جديدة.