رغم صياح الشارع الأمريكي ومزايدات الاحزاب السياسية والنواب والشيوخ على دم الامبراطور الياباني، إلا أن أمريكا لم تجرؤ على محاكمة أمبراطور اليابان كمجرم حرب، نعم لم تحاكم أمريكا الأمبراطور، وكتم الحاكم الأمريكي لليابان، الجنرال ماك أرثر من مواقف الامبراطور ما كتم، وصغر من شأن كبير ما اشتهر منها، معظما لدور الامبراطور في إنهاء الحرب وتهدئة الموقف بعد الحرب، وذلك بإعلانه بنفسه وبصوته- من قصره الفاخر- قبول شروط الحلفاء، دون ذكر لاستسلام، بل أمر شعبه بالصبر والتحمل.
فخوف أمريكا من الولاء الياباني لامبراطورهم، دفعها لأن يسوقوا لمعسكرات الحجز، كل ياباني أو أمريكي من أصل ياباني، يعيش في أمريكا. بينما لم يفعلوا الشيء نفسه مع الايطاليين والألمانيين والمتأمركين من أصولهما.وخوفهم من هذا الولاء الياباني نفسه أجبرهم في اليابان ليستبدلوا حبل مشنقة الأمبراطور بوشاج الصداقة الأمريكية اليابانية. فما كان لجنرالات أمريكا أن يجوبوا فرادى شوارع وأزقة المدن اليابانية المدمرة المحترقة الملوثة برائحة الجثث المتعفنة بين أكوام المتشردين الجائعين المشوهين، ويرتادوا -وهم سكارى-ما تبقى من أطلال الحانات اليابانية الخاوية دون أن يتعرضهم أحد من اليابانيين، وهم هم هؤلاء الجنرالات نفسهم من دمروا اليابان جميعها.
وما كان صبر اليابانيين على رؤية الأمريكان من جبن ولا مذلة، ويقتل الياباني نفسه مقبلا، ولا يدبر راضيا بالهزيمة. فاليابانيون أشجع الشعوب قاطبة عبر التاريخ، وقد توارثوا في مفاخرهم كراهية الغريب عموما واستحقاره، فكانوا يربون أولادهم على ذلك، فكيف إن كان الغريب هو المحتل المدمر. لكنه الولاء للقائد، إذا اقترن مع الشجاعة، قلب الهزيمة نصرا، فبمثل هذا الاقتران بين الشجاعة والولاء للقائد، اعتز العرب في عهد رسولنا عليه الصلاة والسلام وصاحبيه رضي الله عنهما. وبتخلف الولاء للقائد عن ثقافة المسلمين، وعودتهم لنزعتهم العربية سريعا وُضع السيف بينهم، فسُفك دم ذي النورين في المحراب وقُتل أمير المؤمنين علي في المسجد وطلحة والزبير حواري رسول الله، ونُحر سيد شباب أهل الجنة حب رسول الله، وحُمل رأسه الشريف لأعدائه.
ولطالما تساءلت وتأملت أسرار عظمة الشعوب، فأجد سببا هنا في تلك الأمة وسببا هناك في تلك الأمبراطورية، إلا أني وقفت حيران أمام سر عظمة اليابان التي لم يغلبها أحد لآلاف السنين قبل أمريكا. وعجبت كيف احتلت اليابان معظم دول المحيط الهادئ، ككوريا واندونيسيا وماليزيا وسنقافورة وخمس مقاطعات صينية وكثيرا من مدن الصين وغيرها في أشهر معدودة.
كيف يمكن هذا، والصين لوحدها، أكبر من اليابان مساحة بعشرين مرة، وأكثر عشرة أضعاف شعبا. كيف والصين كانت أكثر حضارة وتطورا من االيابان، بل قد عاشت اليابان عالة عليها في الحضارة. فقد نسخت اليابان من الصين تقريبا كل أمور شئون الحضارة المدنية، علمية أو تنظيمية، حتى اللغة. فما زلت متحيرا، حتى وجدت الإجابة من وزير ياباني قدم نفسه لحبل المشنقة فداء للأمبراطور في المسرحية الأمريكية لتبرئة الأمبراطور، فقد سأله الجنرال الأمريكي -والباحث الأكاديمي في العقلية اليابانية، عن دافعه لذلك فأجابه الوزير الياباني « إذا فهمت معنى الولاء، فهمت اليابان».
فرجعت متأملا لحال الصين آنذاك، فوجدتها في فترة صعود الحزب الشيوعي، وهي فترة اهتز فيها الولاء للقائد العام، فتمكنت اليابان من استعبادها، ولم تقف مشاكل الصينيين عند مصيبتهم بعدوهم الياباني الذي استغل فرصة ضعف الولاء للامبراطور الصيني فاستباح الصين قاتلاً لأكثر من اثني عشر مليون مدني بمشاهد إذلالية في تعمد مقصود للإذلال، فضلا عن قتلى المعارك وقتل الأسرى الصينيين. نعم، لم تقف مصيبة الصين هناك. فما أن هُزمت اليابان وانسحبت من الصين، حتى قام الحزب الشيوعي بقتل ما يقارب خمسين مليون صيني في حروب أهلية وتصفية ترجمت معنى العدالة والحرية والمساواة التي وعد الحزب الناس بها، فخدعهم حتى تخلوا عن ولائهم لامبراطورهم فتمكن من رقابهم.
ما من عاقبة أسوأ مأساة ولا أعظم خطرا، في تاريخ الأمم من خطر وعقوبة مأساة اهتزاز الولاء للقائد الأعلى. فهي فرصة تسلط العدو الخارجي، وهي المحفز لخروج الفطر الإنسانية الدنيا، والتي تُحول الشعب الواحد لمجموعات متناحرة، مهما وصلت مثاليتهم ومثالياتهم المؤمنين بها. ويكفينا شاهدا ان الصحابة خير خلق الله بعد الأنبياء، بل ومن البدريين بل ومن العشرة المبشرين بالجنة قاتل بعضهم بعضا، ثم قتلتهم جيوشهم وأردت عليهم أنصارهم، وكل ذلك عندما اهتز الولاء للقائد الأعلى، أمير المؤمنين عثمان بن عفان، فمن هز سيف الولاء على الوالي عاد السيف عليه ضاربا. ولنقف ولنتأمل، وكم كان ضرر الصحابة وضرر الأمة إلى اليوم اهتزاز الولاء لأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه. وللحديث بقية.