في الوقت الذي كنت أرتب فيه (أجندتي) الشخصية.. لرحلة شتوية قصيرة لـ (القاهرة)، بعد أربع سنوات من انقطاعي عنها.. مع متابعة فضائية إذاعية صحفية دؤوبة لكل ما جرى وما كان يجري خلالها من (فرح) بثورة الخامس والعشرين من يناير،
و(اكتئاب) من اختطافها على يد (الإخوان)، وشعور بـ (الطمأنينة) لاستردادها في الثلاثين من يونيه - عام 2013م -.. فاجأتني دعوة كريمة من أخي الأستاذ «خالد أبو منذر» مدير أعمال الملحن السعودي - المعروف على مستوى الوطن .. منذ تلحينه اللافت والجميل لـ (أوبريت) مولد أمة «الأستاذ طلال» - يدعوني فيها لحضور حفل تقديم آخر أعمال الأستاذ طلال الغنائية بـ (دار الأوبرا المصرية)، والتي سيكون في مقدمتها.. أو (درتها) على وجه الدقة: لحنه لأغنية (سامحني يا حبيبي).. التي تُعتبر آخر أعمال الشاعر الغنائي المصري الأشهر الأستاذ حسين السيد.. المأسوف على رحيله عام 1983م.. عن ثمانية وستين عاماً، والذي عرفته الأذن المصرية والعربية بامتداد عقود الأربعينيات إلى الثمانينيات.. وكأنه الشاعر الغنائي (الخاص) بموسيقار الأجيال الأستاذ محمد عبد الوهاب.. حيث قدّما (معاً) تلك السلسلة الطويلة الرائعة من الأغاني القصيرة والطويلة التي لا تُنسى: فمن ينسى (الحبيب المجهول) أو (عاشق الروح) أو (بافكر في اللي ناسيني).. ومن ينسى (اجري.. اجري) و(انت انت.. ولا انتش داري) و(شبكوني ونسيوني قوام) و(فين طريقك.. فين) و(علشان الشوك اللي في الورد) أو (لأ.. مش أنا اللي أبكي)..؟ ومن ينسى وطنياته في (دقت ساعة العمل الثوري) و(خي.. خي حبيبي قاسي ليه.. يا خي) و(والله وعرفنا الحب)!!
قبل أن أجيب عليه بـ (قبول) الدعوة أو الاعتذار عنها.. كان يضيف إضافة لا تخلو من المجاملة.. عندما قال لي: لا تنس.. أنك صاحب كتاب (إمبراطور النغم).. فعنايتك بـ (الفن) و(الفنانين) - معروفة وكبيرة.. إلى جانب علاقاتك الشخصية بكذا وكذا - مما لا ضرورة للكشف عنه -!.. ومع ذلك قلت له: أرجو أن تمهلني ليوم أو يومين..!؟
لكن وقبل أن تنتهي المهلة.. كنت أعاجل الاتصال به.. لأعلمه بـ (ترحيبي) بالدعوة وسعادتي بها.. فقد كان يكفيها أنها لـ (حفل) موسيقي غنائي بـ (دار الأوبرا)، وهي التي لم تغب عن أجندتي في أي زيارة قمت بها للقاهرة.. حتى ولو كانت ليومين أو لثلاثة أيام.! فما أكثر ما ذهبت إليها.. وما أكثر ما استمتعت فيها بتلك الألوان الموسيقية والغنائية الراقية الرائعة.. والباذخة في جمالها إن كان من فرقة الـ (ابولشوي) الروسية الشهيرة وهي تقدم على مسرحها بالية (بحيرة البجع).. أو من مطرب لبنان الكبير الأستاذ وديع الصافي وهو يغني (عظيمة.. يا مصر).. أو من الشاب أحمد رياض السنباطي وهو يشدو بروائع أبيه: (على عودي) و(إله الكون) و(أشواق).. أو من فرقة (أم كلثوم) للموسيقى العربية بقيادة موسيقارها الكبير الأستاذ (سليم سحاب).. وهي تعيد على عشاق أغاني الزمن الجميل روائع محمد فوزي وليلى مراد وفريد الأطرش ومحمد رشدي ومحمد قنديل وأسمهان ونور الهدى وكارم محمود، فـ (دار الأوبرا).. هي قلعة الفن ومحرابه، وأرض فردوسه، وسماء أحلامه.. منذ أن أنشأها وافتتحها الخديوي إسماعيل باشا عام 1869م.. بمناسبة افتتاح قناة السويس للملاحة.. وإلى يومنا هذا..!! فمن يُدعى إليها ويعتذر عنها..؟!
* * *
على مدخل الفندق - عند وصولي إليه - كانت هناك جمهرة من الكتّاب والصحفيين والإعلاميين والتشكيليين والموسيقيين والمسرحيين ومندوبي وكالات الأنباء العرب السعوديين.. وقد بدا في وسطهم الموسيقي الكبير الأستاذ جميل محمود صاحب برنامج (وتر وسمر)، ورائعة (سمراء رقي للعليل الباكي) وهو في ملابسه الوطنية وكأنه أمير من أمراء الشمال.. إلى جانب زملائهم وأصدقائهم من الأشقاء المصريين، الذين توافدوا للترحيب بهم ومشاركتهم هذا العرس الفني، الذي تحول بذلك الحضور العربي السعودي المصري المشترك.. إلى مهرجان ثقافي لا يقف عند ليلة (الأوبرا) المنتظرة، التي أسميتها بـ (الليلة الكبيرة) بالإذن من صاحبيها (سيد مكاوي وصلاح جاهين).. ولكنه يمتد إلى معرض تشكيلي ستقيمه الفنانة الأستاذة نائلة باعشن.. وإلى حفل للتوقيع على إصدارين جديدين لكل من الأستاذة أميمة زاهد والأستاذة مها باعشن لم يقدر لي أن أحضرهما بكل أسف..؟!
لأختلي في صبيحة اليوم التالي بأخي الأستاذ خالد أبو منذر.. وأمطره بعشرات الأسئلة القلقة عن الاستعدادات ومجريات ما تم من (بروفات) مشتركة بين الأستاذ (عبادي الجوهر) والمطربة الفنانة (آمال ماهر) بحضور كامل فرقة الأستاذ أمير عبد المجيد.. وفي ذهني أخبار تلك البروفات الكثيرة التي أجرتها سيدة الغناء العربي (أم كلثوم) لأغنية (أنت عمري) بحضور ملحنها الأستاذ محمد عبد الوهاب.. حتى بلغت أربعاً وأربعين بروفة.. لتظهر (أنت عمري) في مساء أول خميس من شهر فبراير من عام 1964م.. بتلك الصورة التي أسعدت وأمتعت وأذهلت أبناء الأمة العربية من المحيط إلى الخليج..؟ فطمأنني وأزال بعض مخاوفي التي كانت تلاحقني خوفاً على الفنان عبادي الجوهر الذي سيغني - لأول مرة في حياته الفنية - على خشبة مسرح دار الأوبرا، أما الفنانة آمال ماهر.. فقد اعتادت الظهور والإبداع على ذات المسرح سواء في أغانيها الخاصة أو بأدائها لروائع (أم كلثوم) بين الحين والآخر، وهو ما جعله يزيدني اطمئناناً عندما قال: فاليوم ستُجرى بروفة (شاملة) أو (جنرال) كما يسميها الفنانون، وأن (بروفة) أخرى وأخيرة ستُجرى يوم غد (الجمعة) على ذات المسرح لمزيد من إتقان ما يُسمى بـ (اللحظات الأخيرة) التي تسبق رفع الستار، وللتثبت من صلاحيات الأجهزة الصوتية والضوئية اللتين ستتعاونان في نقل وقائع تلك الليلة لجمهور حضورها في القاعة.. ولمتابعيها على شاشات الفضائيات الفنية، على أن - الموسيقار طلال - ملحن الأغنية (الأساس) في تلك الليلة.. وهي أغنية «سامحني.. حبيبي» كان قد تابع على مدى الشهور الثلاثة الماضية جميع البروفات التي أجريت للأغنية.. بالصوت والصورة، وأضاف وعدّل كما يحلو له ليتكامل العمل عند تقديمه في صورته النهائية، وهو ما تأكد لجمهور حضور الحفل - فيما بعد -.. عندما أعادت الفنانة (آمال ماهر) إحدى أغنياته دون أن يدركوا سبباً لذلك.. إلا أن الملحن الأستاذ طلال سمع صوت (صافرة) وهي تقتحم (المسمع) الغنائي لثوانٍ.. فطلب إعادتها منها ومن الأستاذ أمير عبد المجيد قائد الفرقة الموسيقية، الذي كان بحق واحداً من أبرز نجوم تلك الليلة عند انعقادها.
ومع هذه التطمينات الكثيرة.. إلا أن جمهور المدعوين ظل على توجسه وهو يترقب لحظة انفراج الستار.. في الليلة الموعودة؟!
* * *
عندما جاء مساء الجمعة - التاسع عشر من ديسمبر - كان جانب من جمهور المدعوين.. يتحرك بإحدى الحافلات الفاخرة إلى دار الأوبرا.. بينما ذهب بقيتهم بوسائلهم الخاصة، لتكون الدكتورة إيناس عبد الكريم - مديرة الأوبرا - عند استقبالهم جميعاً في بهو دار الأوبرا، لأعبّر لها عن فرحتي وفرحة الجميع والعرب السعوديين في مقدمتهم بعودة الحياة الفنية وألقها الجميل.. إلى بيت الفن وقبلته في (القاهرة)، مذكراً إياها.. بأيام المديرة السابقة لدار الأوبرا الأستاذة والفنانة الأصيلة المرحومة (الدكتورة رتيبة الحفني).. وما قدمته - خلال سنوات إدارتها لـ (الأوبرا) - من احتفاليات لا تُنسى بأساطين الموسيقى والغناء: من سيد درويش لأم كلثوم لمحمد عبد الوهاب لرياض السنباطي للشيخ زكريا أحمد لسيد مكاوي لفريد الأطرش وأسمهان.. سواء في ذكراهم أو في أعياد ميلادهم، لتقودنا الدكتورة إيناس وسط حفاوة وترحيب بالغين إلى إحدى قاعات الاستقبال الجانبية، حيث تصدرها نائب السفير وإلى جانبه الأستاذ جميل محمود.. وعلى يمينهما ويسارهما نجوم الكتّاب والصحفيين والإعلاميين والموسيقيين من الجانبين، لتتواصل أحاديث الألفة والمحبة بين الجميع.. بينما نادلو (الدار) يطوفون بكؤوس العصائر وأكواب الشاي بين الحاضرين.. وسط (فلاشات) المصورين وهي تلمع لتسجل أحداث مقدمات تلك الليلة.. التي كانت وكأنها من ليالي الأعياد: فرحاً على كل الوجوه.. وبهجة فوق كل الشفاه.
لتدعونا سكرتارية (الدار) وقد اقتربت الساعة من الثامنة مساءً للانتقال إلى قاعة مسرح دار الأوبرا الكبير، الذي بدا.. وكعهدي به غارقاً في هدوئه وإضاءته الخافتة وقبته المتلألئة وقد امتلأت جوانبه ومقدمته وشرفاته بالحضور.. بينما بقيت مقاعد المنتصف تنتظر ضيوف الحفل القادمين من (المملكة)، ليجد كل ضيف على مقعده: أسطوانة (CD) عليها تسجيل لأغنية الحفل الرئيسية (سامحني يا حبيبي).. بين دفتي إطار مخملي بني اللون، وقد كتب عليه بماء الذهب («سامحني يا حبيبي» غناء عبادي الجوهر - آمال ماهر)، ومعها (كتاب).. أنيق في حجمه.. رشيق في إخراجه.. على ورق فاخر صقيل.. بعنوان (تكريم دار الأوبرا المصرية للملحن السعودي طلال)، وقد احتلت غلافه صورة (أسطوانة سامحني يا حبيبي لعبادي الجوهر وآمال ماهر: من ألحان (طلال) وكلمات الشاعر الكبير حسين السيد) وقد أعده الصحفي الفني الموهوب الزميل الأستاذ علي فقندش، الذي لا تدري من فرط استغراقه في الفن وبين الفنانين.. إن كان صحفياً أو فناناً! ليبدأ الحفل بعد أن فُتح الستار الأحمر القاني بجلاله وجماله عن الفرقة الموسيقية بقيادة الأستاذ أمير عبد المجيد.. بكلمة من الدكتورة إيناس، رحبت فيها بالحضور وبهذا التواصل مع فناني (المملكة) ومبدعيها، وهي تشيد بجهود الملحن الأستاذ طلال، التي لولاها.. لما كان عرس هذه الليلة!! لتبدأ الفنانة الأستاذة آمال ماهر غناء الوصلة الأولى، بأداء فني رفيع المستوى لثلاث أغنيات من ألحان الأستاذ طلال.. خلبت بها القلوب وأشجت بها النفوس بعذوبة غنائها وحضورها الفني المتوهج.. لتدوي القاعة بالتصفيق والهتاف لها.. ولأسأل الأستاذ (جميل محمود) عن رأيه وقد كان على يمين نائب السفير، ليرد متعجباً: (تسألني عن رأيي..؟ لقد بكيت سعادة وفرحاً وشجناً ثلاث مرات أثناء غنائها!)، ليواصل فناننا و(عويدنا) الأشهر الأستاذ عبادي الجوهر.. غناءه مع الوصلة الثانية من الحفل بأغنيتين من ألحان الأستاذ طلال، ثم ليلتقيا في غناء.. أغنية الأستاذ حسين السيد (سامحني يا حبيبي) بالتناوب، ليغنيا معاً ختامها القائل:
(أيوه حبيتك حب فرحني وسهرني وهناني أيوه حبيتك.. حب مش ممكن يكون له ثاني بس مش ح أقدر أكمل الطريق وياك خطوة ثالثة ماشية جنبي تشاركني هواك)
لتنتهي تلك الليلة.. التي كانت بحق ليلة الليالي في الأوبرا المصرية: كلمات ولحناً وغناء.. بَعُد العهد بهم، لتعيدها هذه الأغنية وهذا الغناء وهذا اللحن.. الذي يحمل ملامح غناء وأغاني (الزمن الجميل).
* * *
عندما عدت إلى غرفتي بالفندق.. وخرجت إلى شرفتها.. لأرى النيل وهو يمضي تحت ضياء القمر، وجدتني أخاطبه بشعر شوقي، وهو يقول: (يا نيل أنت بطيب مانعت الهدى - وبمدحة التوراة أحرى أخلق)..!!