كانت جموع المواطنين، مساء أمس، في قصر الملك عبدالله بن عبدالعزيز حاضرة من دون أن يكون رمزها الكبير حاضراً، وبدأ الهمس فيما بين المعزين: هنا كان الفقيد يجلس قبل وفاته، وهذا كرسيه في مواجهة عامة الناس، وعن يمينه ويساره كان يجلس الأمراء والعلماء والوزراء، وأنه في هذا المساء يغيب لأول مرة عن محبيه، فيما لم يبقَ أمام الحضور سوى ذكريات تُروى عنه، ودموع من شعب مكلوم، وحزن يطغى على أجواء المكان.
***
كان الفقيد الكبير هنا في قصره، يتصدر المجلس الكبير، فيشع المكان نوراً كلما حدَّث الحضور عن موقف أثاره، أو استمع وعلَّق على حديث جرى على لسان أحد الحاضرين، فالصورة الجميلة لا تغيب مع كثير من الذكريات عن أذهان الحضور وإن غاب شيخها الكبير.
***
المعزون الذين غطوا الشوارع المحيطة بالقصر والساحات داخله، وبدأت الرياض وكأنها تزحف إلى حيث مكان القصر، فيما كان الجميع مساء أمس في وجوم، مكلومين جميعاً بوفاته، ومن الأجواء الحزينة التي ذكرتهم بصاحب الدار، كانوا يحاولون إخفاء تلك المشاعر الحزينة المدفونة في أعماقهم، وأنى لهم القدرة للسيطرة على مشاعرهم، والغائب هو عبدالله بن عبدالعزيز.
***
أجل، يستحق هذا الفارس الشجاع أن نبكيه، وأن نحزن عليه، وأن نشعر جميعاً بأن وفاته تمثل خسارة كبيرة للأمة، وفي قصره تحديداً لا بد أن هناك من قال في لفتة إنسانية: لا ننسى أن أول الأسرى لأحزانهم ودموعهم هم أولئك الذين كانوا في خدمة سيدهم (الإنسان) عبدالله بن عبدالعزيز، أما من كان في قصره معزياً فقد كان غارقاً في الحزن مساء أمس إلى أذنيه كما يقولون.
***
لقد خرج الجميع من قصر عبدالله بن عبدالعزيز في شرق الرياض، متأثرين بعد أن شعر كل واحد منهم بأن النور قد خبأ في هذا القصر الشهير، وأن زينة المجالس في شخص ذلك الملك قد غابت ولن تعود، فقيمة الأماكن تكمن في ساكنها الأبرز والأهم، وهذا القصر تبقى أهميته مرتبطة باسم ساكنه العظيم الذي ودعنا وودعناه بالحب والوفاء والدعاء والاعتراف له بالجميل.
***
كان عبدالله بن عبدالعزيز هنا، في قصره، وإلى وقت قريب، يستقبل عامة الناس وخاصتهم، وبينهم -أحياناً- ضيوف من خارج البلاد، ومسؤولون من هنا وهناك، فيعطّر مجلسه بتلاوة آيات من القرآن الكريم، مثلما كان يفعل والده العظيم الملك عبدالعزيز، ثم يُفتح النقاش ويبدأ الحوار، في أجواء أسرية، وضمن تقاليد تثير في الحضور الحب الصادق لهذا الفقيد الكبير.
***
وكان عبدالله بن عبدالعزيز صاحب مدرسة متميزة في إدارته للحكم، أخذ دروسه فيها مما تعلمه من والده العظيم وإخوانه الملوك، ووظّفها بما يتوافق مع شخصيته الآسرة، ويتلاءم مع مستجدات الحياة، وهكذا نجح، وهكذا أحبه شعبه، فبكى كثيراً وطويلاً حزناً على وفاته لا خوفاً على مستقبله، فالراية بيد أمينة، بيد الملك سلمان بن عبدالعزيز رفيق دربه وعضده خلال حكمه وقبل فترة حكمه، فرحمك الله يا عبدالله، وجعل الجنة مثواك مع الأبرار والشهداء والصالحين.