ليست الفلسفة على الحقيقةِ سوى نظرية المعرفة والعلم مُدَعَّمةً بما يُمِدُّها من العلوم الأخرى كالمنطق؛ ليؤخذ من ثنايا الذي يُمِدُّها ما هو من بناء المعرفة، وما هو نموذج تطبيقي لعصمة الذهن في مقدمات سوفسطائية مُعَيَّنة؛
وذلك هو البرهانُ الأرسطي، ويُستبعد منه ما ليس فلسفة كالمداخل في علوم اللغة؛ وإنما يُستفاد منها سياقاً لا تأصيلاً فصولٌ مستقِلَّة، ومَـجالُ ذلك اللغة وعلومُها.. ونظرية المعرفة والعلم هي التي تُعنَى بمصادر المعرفة، وتحليلِ كل معرفة إلى عناصرها، وتذكُّرِ نوع المعارف تصوراً وحكماً كالإمكان والوجوب والمحال، وكالعلم بالموجود وصفاً، والعلم به كَماً وكيفاً، وكَذِكْرِ درجات تصحيح المعرفة ما بين اليقين إلى الوهم والبطلان، وما يتبع ذلك من سلوكٍ كالقطع علماً، أو الوجوب عملاً، أو التوقُّف.. إلى آخر ما هنالك من فروع نظرية المعرفة ومصطلحاتها.. وأسلوب ذلك النظر العقلي اليقِظ الصارم، وأداة توصيله: المثالُ والتقسيم وزيادة الإطناب بالشـرح والبسط عند الضـرورة، ومادَّتُه عموم ما هو موضوع لمعرفتنا من المُشاهَدَ والمغيَّب؛ وبهذا تنتهي الفلسفة العامة وتقِف؛ فإذا جرى تأصيل حقلٍ معرفي بأسلوب فلسفي فذلك هو فلسفة ذلك العلم، وهو التطبيق لنظرية المعرفة (الفلسفة العامة).. وأهمُّ مدخلٍ لنظرية المعرفة والعلم بيانُ اشتقاق البرهان العلمي منها؛ فأول خطوة للفلسفة النزيهة البحث الجادُّ في الكشف عن مُسَلَّمَةٍ يؤمن بها العقل الإنساني المشترك بضرورة فكرية، وأما السلوك الحرُّ غيرُ الملتزم بمسؤولية العقل فهو المَسارُ غير الأخلاقي الذي مزَّق الفلسفة إلى مذاهب متباينة.. ثم إن الاتفاق على مُسَلَّمة بِحريَّةٍ سلوكية مُحال، بل يكون هَدْمُ نظرية المعرفة والعلم بالحرية السلوكية غير المسؤولة فكرياً؛ فبذلك يستطيع الإنسان أن يكون سوفسطائياً عبثياً.. ومع قَهْرِ حُرِّية السلوك بضرورة المعايير فصفة صاحب هذا القهر أنه عَقليٌّ إيجابي، وهو ذو تفكير علمي؛ لأنه بمصادره العامة بالحس الظاهر والحس الباطن (الوِجدان) يكون عقلياً بالوجه الأعم، أو عقلياً بواسطة الشرع، أو عقلياً بواسطة الحس من الحقلِ العلمي الذي يُؤصِّله ويستنبط منه كمتون اللغة.. والإقرار بحرية السلوك غيرِ المسؤولة لحقٍّ أو خير أو جمال أو صواب: مُوْجِبٌ الخصوصَ للعقل الإيجابيِّ الذي مَرَّ ذِكْرُهُ؛ لأن كلمة (اخترت هذا بحريتي السلوكية) مُنهيةٌ الخلافَ، طاويةٌ كلَّ منهج علمي أو فكري؛ إذن المُسَلَّمة الفكرية المَسْؤولة مفروضة على كل فرد يملك حرية الاختيار السلوكي الإيجابي، محتومة عليه كحتمية أجل وجوده وموته لا يستطيع التخلص منها إلا إذا أراد بحريته عنادها؛ فهذا معنى مؤوليَّتِها، وليس المعنى أنها غيرُ مُحاسبة.. تشعر بهذه المسلَّمة إذا أصغيتَ إلى كل المذاهب المختلفة اختلاف تباين، واختلاف تضاد، أو اختلاف عموم وخصوص.. إلخ؛ فسمعتَ أصداء عنصرٍ مشترك بين هذه المذاهب؛ فحينئذٍ تجزم بأنَّ تخلِّي أيِّ مذهب عن هذا العنصر يصبح تخلِّيه إلغاءَ مُسلَّمةٍ حتمية يملك إلغاءها بحرية سلوكية، وليست هذه المسلمة غير مبادئ العقل الضرورية فكل عقل (لا يستقرُّ في تصوره غير ما توجبه هذه الضرورات): لا يقوى على تصور غيرها، ولكنه يقدر على إلغائها بنطق لسانه، ولا يقدر أن يَقَرَّ في تجربته وحسه غيرُها؛ وهذا هو معنى قولِ الإمام الربانِيِّ أبي محمد ابن حزمٍ قَدَّس الله روحه ونوَّر ضريحه: ((ليس علينا قَسْرُ الألسنةِ على الصدق -يعني الصدق اعترافاً بالحق والباطل، والخطأ والصواب، والخيرِ والشرِّ، والجمال والحق-؛ وإنما علينا قَسرُ النفوسِ (يعني انقطاعَها وإلزامَها العنادَ والحميَّةَ والتعصُّب للإلْفِ والعادة من أجل الباطلِ والشرِّ والخطإ والقبح؛ بسبب اِنْقطاعها عن المجادلةِ بالتي هي أحسن بذلك الإلزام.. إن اللسان يستطيع أن ينطق ويقول: (النقيضان يجتمعان)، ولكنه لا يستطيع أن يتصور ذلك بعقله، ولا يستطيع أن يُظهر بالحس والتجربة نقيضين مجتمعين، ولا يستطيع أن يُلْزم عقلَ غيرِه بغير هذا المقتَضى الفكري؛ إذن العقل بمبادئه الضرورية، وقُواه الفطرية هو المسلَّمة الحتمية في كل فرع من فروع المعرفة البشرية بدون استثناء، وكل ما يُسمَّى برهاناً طِبياً أو رياضياً أو تاريخياً أو شرعياً أو خُلقياً أو جمالياً أو قانونياً.. إلخ فإنما هو برهان مشتقٌّ من أحد مبادئ العقل الضرورية، مُنظَّم بِقُواه الفطرية كالتصوُّر واللَّمَّاحيَّة والتمييز بالعلاقات والفوارق.. إلخ.. ومهما تعددت صور البراهين فبلغت العشرات أو المئات أو الألوف أو الملايين فإنها قضايا تُقَصُّ -بالبناء للمجهول- بالأثر من حقلٍ إلى حقل حتى تنتهي إلى مبدأ عقلي لا برهان عليه إلا حتميةُ وجوده في تصوُّر كل عقل.. ومن قال: (لا مذهب لي إلا معطيات التجربة) باخسٌ العقلَ، مُلْغٍ كثيراً من معارفه، ويلزمه التناقض؛ لأنه يستخدم سلطانَ العقل إذا شاء، ويُذِلُّه إذا شاء.. في حين أن ما أخذه من العقل وما ردَّه منه سِيَّان ليس بعضهما أولى من بعض إلا باصطناع إرادة حُرَّة.. أي باصطناع عقيدة يختارها بتشهِّيه وتحكُّمه، ثم يلتزم مدلولها، ويُؤمِّم بها إيجابياتلم يصنعها؛ ومن ثم يلزم الفلسفةَ النزيهة استردادُ أيِّ مدلول لضرورات عقل جحدها الجاحدون مِن حيث شاءوا؛ فلا يُقبل من التجريبي أن يقول بملء فيه: (أنا غير معترف بسلطان العقل) وهو يمارسه عملياً في أشواط تجربتِه؛ وإنما علينا أن نستردَّ منه المبادئ العقلية التي استخدمها حيث شاء.. والمبدأ الخلقي يعني تحريرَ العقل من نيرالادعاء والجحدان، ويعني قَسْرُ النفوس والعقول على الحق على ما هو ضرورة فيها؛ وإذِ استبان أن مبادئ العقل الضرورية، وما اشتُقَّ منها بحكم إيجابياتها هي المسلَّمة الحتمية، وهي العنصر الفعلي في كل فرع علمي وفي كل مذهب فكري: فمردُّ ذلك إلى حتمية تلك المبادئ في التصوُّر، واطِّرادِها في الكون؛ بدليل كل خبرة عُرفت، وأنه لم يعرف شذوذُها في حالة محسوسة.. وهذا الاطرادُ هو سبب حتميتها في التصور، وقد أنتج هذا الاطرادُ التلازمَ بين قوانين الكون وقوانين العقل؛ فقد خلق الله عقل الفرد وفي فطرته أنه لا يمكن اجتماع النقيضين، والكون موجود ليس فيه نقيضان يجتمعان.. واكتشف بحسِّه خِبْرَاتٍ من الكون (مهتدياً بالله ثم بقوانين عقله الضرورية وملكاته الفطرية)؛ فوجد المبدأ الثابت في عقله هو واقعَ الخبرة، والتمس خِبْرَاتِ غيره وخبرات سابقيه: فلم يجد عندهم حالةً شاذَّة عن هذا القانون، ولم يستطع هو ولا غيرُه إيجادَ حالةٍ شاذَّة؛ وبرهان صدق هذا التلازم التحدِّي.. تحدي العلم والفكر أن يُبَدِّلا سنة الله الكونية بخلاف فطرة العقل، وتحدي كل عقل أن يَقَرَّ في تصوره مبدأٌ يخالف سنة الكون.. من هذا التلازم علمنا أن خالق فطرةَ العقلِ هو خالقُ سنة الكون؛ لأنه لا سبيل إلى إحقاق شيء من قضايا الكون أو إبطالها إلا بواسطة العقل، ولا سبيل إلى مسألة عقلية تقرها المبادئ الفطرية إلا بشواهد من الكون بواسطة الحس.
قال أبوعبدالرحمن: إنَّ وجود بديهيات مكتسبة من الخبرة الحسية مع ملكات العقل الفطرية، وتخلُّفَ الحالة الشاذة عن هذه البديهيات: كافٍ للدلالة على أن كل خبرة مُسْتَقْبَلَة لابد أن تكون كما هي في تَصوُّر العقل حالةَ إدراكه إيَّاها؛ لأن العقل لم يهتد إلى وقائع الخبرة إلا بأحكام مُسْبقة من واقع المبادئ العقلية الضرورية بِقُواه الفطرية، ولا سبيل إلى إقرار الخبرة إلا بواسطة ذلك.. ولو وُجِدت حالة واحدة فقط من قضايا الخبرة منذ فجر البشرية حتى الآن بخلاف مقتضى تلك المبادئ لكانت هذه الحالة وحدَها كافيةً للدلالة على أن سنة الكون لا تَرِدُ وَفْق فطرة العقل وإن وجدت ملايين الشواهد المعارِضة لتلك الحالة؛ وهذا أقصى تسامحٍ فكري ممكن، وإلى لقاء إن شاء الله في الأسبوع القادم، والله المُستعانُ، وعليه الاتكال.