قال أبو عبد الرحمن: ثبت من خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح القطعيِّ ثبوتاً، الصحيح الصريح دلالةً: أنَّ مَنْ أَرَى عينيه في المَنام ما لم ترياه يكلَّفُ يومَ القيامة بعقد شعرتين، وما هو بقادر؛ فتبقى معاناتُه عذاباً عليه..
ووالله ماهانَ عليَّ ديني فأكذب في الرؤيا مع هذا الوعيد الشديد، وحاشى للصدِّيق رضي الله عنه أن يتمَثَّل الشيطان في صورته؛ وإنما أحتاط لنفسي باستثناء ما لم أفهمه في رؤياي، أو لم تبْقَ صورته ماثلةً في قلبي وذاكرتي بعد أن استيقظتُ؛ فلا أُفَسِّر ذلك إلا بما يُؤْنِسُني في سياق الرؤيا.. لقد رأيت أبا بكر الصديق رضي الله عنه - وقد فَصَّلتُ ذلك في تباريحي - في مدينتي شقراء في بيت آل هبَّاد مِن آل الطُّويهر، وكانت علاقة أبي بهم متينة.. رحمهم الله جميعاً؛ وهذا البيتُ أمام مبنى البرقيَّة الذي أقيم وراء السوق (سوقِ جواخير الخيلِ، أو سوق سُدَيرة، والجواخير نسبة إلى الخيل التي يجلبها التجار من الهند ومصر، ثم يعسفونها، ثم يبيعونها على مثل محمد بن هندي والهيضل) برؤيا لا تُناسب بيئة العرب في عهد أبي بكر رضي الله عنه بالمدينة المُنَوَّرة، ورأيتُ مِنْه ما يُناسبُ أوصافه الحقيقية؛ إذْ فتحتُ الباب برفق، واستَقرَّتْ رجلاي أسفل الدَّرج (المِصْعَد)؛ فإذا بأعلى المُنتَدى (مكانَ التنادُمِ على القهوةِ التي هي شراب الصالحين) أبو بكرٍ الصديق جالساً وعليه صدريَّة، وعلى رأسه غترة أو شُمَاغ أو شال، وما ذلك من لباس العرب في عهده رضي الله عنه ورأيت منه وجهاً جميلاً مستطيلاً تعلوه صُفْرة، وعن يساره على المَرْكَى (الذي يُتَّكأ عليه) شيخي حمد الجاسر؛ فأجهشتُ بالبكاء، واهْتزَّ جسمي فرحاً وخوفاً معاً، وهو ساجي الطرف، مُحَدِّقِ النظر.. ولم أَدْرِ بعد سِرَّ تحديقِه النظر فيَّ: أهذا لومٌ لي على صرف العمر في التاريخ والأنساب، أم تبشيرٌ لي بطلب العلم الشرعي الذي تربَّيتُ عليه في الكتاتيب ثم في التعليم المدني (وكانوا يعلموننا في الكتاتيبْ أصول التوحيد كأقسامه التي يدركها الناشئ، وكانت تُوصف بتعليم الدين كالتي يُلَقَّنُها العوامُّ في المسجد بعد صلاة الفجر مثل: (ما دينك، ومَن ربك، ومن نبيك) إضافةً إلى تربية البيت، ثم انصرفت عنه.. وعلى أيِّ حال فقد سعِدتُ بهذه الرؤيا واستبشرت بها.. وقال شيخي حمد الجاسر قبل أن يَرَني أو يسمع صوتي: (تَفَضَّل يا ابني)، ولست أدري سِرَّ جلوس الشيخ بجنب الصِّدِّيق.. إلا أنني قرأتُ في (جذوة المُقْتَبِسِ) للحميديِّ رحمة الله تعالى عليه تعبيرَ مَن رأى أبا بكر أو أبا نواس في المنام: بأنَّ رؤيا الرائي أبا بكر تُكْسِبُه علماً بالشرع، وأن مَن رأى أبا نواس يكتسب مجونَه.. وعبَر الحميديُّ (أو ذكمَن عَبَر ذلك): أنَّ شاعراً أندلسيّْاً رأى أبا نوَّاسٍ ينظر إليه بعينٍ حولاء: فكان تعبيرها: أنه يكتسب شيئاً من مجونِه لا مجونَه كلَّه، وهكذا حصل للرائي.. ولا أعرف سِرَّ جلوس شيخي حمد الجاسر عن يسار أبي بكر إلا أن الشيخ حمداً (حمدٌ منصرف) كان يُلِحُّ عليَّ بأن أُعْنى بتاريخ العرب وأنسابهم، وأن هذا العلمَ هو ما يحتاج إليه عصرنا الحديث، وهكذا الشيخ محمد العبودي حفظه الله يوصيني بهذا، وبتسجيل أحوال البيئة العامية حتى لا تُنسى، وهكذا أوصاني بالعناية بجمع الأمثال عند أهل القرى والبادية، وتحقيق أصولها حتى لا يضيع العلم بمصادر اللهجات العامية وهي جزء مهم من اللغة - وقد حرصتْ الرئاسة العامة لرعاية الشباب على تشجيع التأليف في ذلك بطبعه على نفقتها.. وهكذا أَلَّفَ في ذلك مُجلدات كلٌّ من العبودي نفسِه، وعبدالكريم الجهيمان رحمه الله تعالى، ومحمد القُويعي، واحتفظت المكتبات الفردية والحكومية بِعيِّنات مِن ذلك.. وأذكر أنَّ إحدى بناتي سألتني عما سمعته مني ذات مرة من النطق بالسِّنْوِ لأن معناها يجهله أبناء جيلها؛ فبينتُ لها أنه ما يَعْلق بباطن (المِقْرصة) وهي قُبَّةٌ من نحاس، لإنضاج القرص الرهيف، ويعرف بالقرصان، وبينت لها أنه يُخلط بالصمغ إذا صنع منه ومن غيره الحبر حتى يلصق بالكاغد ولا يَمَّحِي بأدنى بلل؛ ولقد هجَس في عقلي أن هذا العلم مما يُستفاد من رؤياي بعضَ ما أُريته من الصديق؛ لأنه ذو علم واسعٍ بأنساب العرب وتاريخهم؛ وهو - أي أبو بكر - مَرْجِعٌ متميِّز.. ولقد جمعتُ بين الأمرين.. مع أنني عَصِيٌّ مُعانِدٌ مُشاغِبٌ في قبول الوصايا ما لم تكُن نصّْاً شرعياً صحيحاً صريحاً أقْتَنِع به ببرهان قاهرٍ؛ ومِن ثم أطْمَعُ في مُوْصيني أن أَرُدَّه إلى ما أنا عليه ببرهان قاهر.. وما بقي لي في آخر العمر هو الاجتهاد في فهم النصوص الشرعِيَّة المُطهَّرة وَفْقَ لغةِ العرب بما يترجَّح لي أنه مرادُ الله سبحانه وتعالى، والحِرْصُ على فهمها وتطبيقها.. اللهم عفواً: قد طغتْ أقلامنا (حتى لا أُتَّهم بالشنآن فقد استعرت التعبير من ابن قيِّم الجوزية رحمه الله تعالى مع أنني لا أستعير تعبير عالمٍ إذا وجدته عند غيره مِمَّن هو قبله مِن العلماء)، وأسأله تقدَّستْ أسماؤه الهداية والعصمة والإعانة والتثبيت.
قال أبو عبد الرحمن: ومن خصائص الصِّديق أنَّ بيعتَه بالخلافَةِ كانت قضاءً شرعياً من الله يعني الأمر الواجب اللازم الأمَّةَ؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)، أو ما هذا معناه، وقد تقصَّى الإمام الحبْر أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى أدلة ذلك من القرآن والسُّنة بما لا مَزَيد عليه، ثم تلاه الإمام ابن تيميَّة تابعاً أثره.. رحمهما الله تعالى.. وهذه الموازنةُ بين فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم جاءت في سياق تحقيقي مقالةً لمعاني الإنسانية، وقد جاء فيها: أنَّ الإنسانيِّيْنَ الأوائلَ هم الذين آمنوا بما أنزله الله على جميع الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه، ثم ذكر منهم أمثالَ (كالْفنْ) و (لوثر) مؤسِّسَيْ الديانة البروتستانْتِيَّةَ التي تحَوَّل أتْباعُها مِن أَحَدِيّْيْن إلى سَبْتِيّْيِن؛ فبيَّنتُ أن خيراً مِن مؤسِّسيْ تلك الديانة، ولا مَجال للمقارنة لِبُعْدِ الفارق لولا أنه ذكر أمثالَ (توماس الأكوينيَّ) -: أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.. ولا أظنّ أنَّ أحداً سيعتقد أنَّ المفاضلة بين الصحابة رضي الله عنهم لا تنبغي؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسم المنهج في المُفاضلة بينهم؛ فذكر خصائصهم عندما قال: أقرؤكم فلان، وفلان أعلمكم بالقضاء، وفلان أعلمكم بالمواريث؛ ليشاركهم العلماءُ في الفقه؛ أو ليتأسَّوا بهم؛ فكان الصِّديق أعلمهم بالقرآن والسُّنة وأفقههم في فهمها، وكان عمر أعظمهم فِراسة.. أحصى له العلماء (وأُلِّف في ذلك كُتيِّب صغير) عدداً من أحكامِه التي وَرَدَ النَّصُ وَفْقها (كالتَّنَفُّلِ في مقام إبراهيم، وآية الحجاب، وفتواه في أسرى بدر).. وربما لم يبلغه الحديث؛ ولهذا كثر استفتاؤه الصحابة عن سننِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يستفتي الفقهاءَ منهم، وقد كثر استفتاؤُه عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعاً في معانيها، وكان يقول إذا غاب عنه: (معضلة ولا أبا الحسن لها)، وعند عليٍّ رضي الله عنه فقهٌ كثير؛ ولكن الرافضة أفسدته بكثرة افترائهم عليه.. ومع هذا كان عمر رضي الله عنه دقيق الفهم في بعض المسائل كمَسألة العول، وفقْهِ الإدارة، وتمصير البلدان الذي ظهر من سياسته في الفتوح الإسلامية التي تمَّتْ في عهده، وكان يشكُّ في بعض الأحاديث، ويزجر بعض رواتها ككعب الأحبار، ويترجح له أنها نُسبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سهواً أو كُذِبتْ عليهتَعَمُّداً، ولا يقنع حتى يرويها الذين يتحرون ثبوتها ودلالتها.. وكان يستأنس بفقه ابن عباس رضي الله عنهم؛ ولكنَّ جمهوراً من العلماء ظنوا أن ابن عباس أفقه الصحابةِ جميعاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له ربَّه بقوله: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)؛ وهذا الظنُّ لم يُصادف مُوَافَقَةَ مُراد النصِّ الكريم في دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وهو أن ابن عباس رضي الله عنهم جميعاً شاب ذكيٌّ.. حفظ كلام الله في صِغَرِه وَلَمَّا يبلغ الحلُم بعدُ؛ فدعاءُ رسولِ الله له: معناه أن يعانِق كِبار الصحابة في الفقه. وهو ليس أفقَهَ من أبي بكر وعمر وعلي، وليس أفقه مِن ذوي الاختصاص في القضاء والمواريث والإقراء.. والروايات عنه في تفسير كلام الله لا يصح منها إلا قليل عن طريق رواة معيَّنين، وأكثر الروايات إما من اختراع بعض أهل الكتاب، وإما من مأثور أهل الكتاب، وإما أنَّ النص المرويَّ لم يرد كما هو من غير تحريف أو تأويل، وقد جمع ابن المبارك الدِّيْنَوَريُّ الروايةَ عنه، وليس هو عبدالله بن المبارك الإمام، ونُسب الكتابُ إلى الفيروزآبادي رحمه الله تعالى؛ لأن الكتاب من روايته بإسناده المُتَّصِل إليه، ومداره على كَذبة كالسُّدِّيِّ وابن الكلبيّ وابن حميد الرازي.. وقلتُ: (إن المفاضلةَ بين الصحابة رضي الله عنهم منهج شرعي)؛ لأنَّ في ذلك حِفْظُ حقوقِهم، وإقامةَ الشهادة لهم؛ لأنَّ خير أمَّة أُخرجت للناس أُمَّةٌ وسط.. يقومون بالشهادة لله وهو أعلم بهم وبمن شهدوا له، ثم يكون الرسول صلى الله عليه وسلم شهيداً عليهم.. وَجَرَّني إلى هذه الإفاضة عن الصديق رضي الله عنه: أنني أسهبتُ في بيان معاني وحدانِيَّةِ الله سبحانه وتعالى في الكمال والتَّنَزُّهِ عن النقائص، وأنه الحي الدائم الباقي لا شيئ بعده ولا قبله، وأنه الظاهر والباطن، وأنه مُقَدِّر كل ما هو كائن قبل خلْقِه السموات والأرضَ بخمسين عاماً، وأن هذا التقدير عن كونِ السموات والأرضِ الماثلة الآن، وأنه لا بداية لِخَلْقِ الله إلا بأنه مسبوق بوجودِ الله؛ لأنه جل جلاله وتقدَّست أسماؤه غير مُعَطَّلٍ عن الخلق والتدبير طرْفةَ عين؛ بل كلَّ يومٍ هو في شأن؛ وهذا معنى أنَّ الله هو الدهر؛ لأن الدَّهر كائن بوجوده، ولا عدمَ في حَقِّ الله؛ لأنه إذا أراد شيئاً قدَّره، ثم قال له بقضائه الكونيِّ القدري: (كُنْ)؛ فيكون.. أسهبتُ في ذلك لغلَبة الإلحاد في هذا العصرِ الذي هو ذَنبُ الدنيا؛ حتى كاد المرء يمسي مؤمناً ويصبح كافراً..ومن الكفر أن يكون الكافِرُ لا دينَ له كعادٍ الذين كفروا ربَّهم؛ وإنما دينهم الوثنِيَّة، ومِثْلُ ذلك الْعَلْمَاني والماركسي يقولا: ((دِيْنُنا ما ابتكرتْه عقولُنا، ولا وجودَ لخالِقٍ (له قُوَّةٌ وعلمٌ تضبط هذا الكون).. وهناك مَنْ كفر بالله؛ لأنه جَحد حَقّْاً من حقوقه كقولِ الجهمي: (إنَّ المُكلَّف يَخْلُقُ فِعْلَه) لينزِّه ربه بزعمِه مِن مسؤوليةِ ربنا سبحانه وتعالى في كفر الكافر إذا عذَّبه؛ بأنه لم يَظْلمه؛ ولهذا حديث مُحقَّق إن شاء الله في الأسابيع القادمة، (وذلك إخلال ببراهين الكمال) وهناك كما أسلفتُ مَنْ كفر الله كعادٍ قوم هود (وذلك إخلالٌ ببراهين وحدانِيَّة الكمال والتنزُّه)، وإلى لقاء قريب إن شاء الله، والله المُستعان.