الموت حق، لكن هناك من تخلدهم سيرهم وأعمالهم وإنجازاتهم ومحبة المواطنين لهم، فيبقون -وإن ماتوا- أحياء بأفعالهم وإنجازاتهم، حيث تتمثل بها الأمم وتقتدي بها، وتراها نبراساً لها في مشاوير حياتها، فإذا بها تحاكيها، وتتعلم منها، وتجد فيها ما يرشدها إلى الطريق الصحيح.هكذا هم الرجال العظام، الذين أدركوا في حياتهم بأنهم حين يُوَدِّعون دنياهم ذات يوم، فإما أن يبقوا في ذواكر الناس، أوأن يختفوا تماماً ويطويهم النسيان، وبين هذا وذاك هناك من يبقى خالداً تُذَكِّر به إنجازاتُه وأفعالُه، ومن تَذْرُوهُ رياح النسيان ممن كان بلا أعمال منتجة، ومن دون إنجازات مثمرة، فالشخصيات القيادية المؤثرة، لا تموت إنجازاتها بموتها، ولا تختفي بوفاتها حالة التميز التي صاحبت قياداتها لشعوبها، فالتاريخ يرصد السير، ويوثق خطوات العمل والبناء، ولا يهمش إنجازاً مؤثراً أو عملاً مميزاً.
***
كان الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- إلى يوم أمس بيننا أباً لنا جميعاً، لا يهمه إلا سعادتنا، ولا يشغله عنا إلا عمل يقوم به من أجلنا، رحيماً بنا، ومحباً ومتسامحاً معنا، وإن شئت فقل صديقاً وأخاً لكل منا، فقد كان همه السعي نحو إرضاء كل المواطنين، ومعاملتهم المعاملة الكريمة التي يستحقونها، بعدل ومساواة، وعلى مسافة واحدة، ودون تمييز أو تفرقة أو محاباة لمواطن على حساب مواطن آخر، وقد كلفه هذا الشيء الكثير، وظل متحاملاً على نفسه حتى الساعات الأخيرة التي سبقت توقف نبض قلبه من أجلنا، فأجهد نفسه، وعرّض صحته إلى الاعتلال، وأصرَّ على أن يبقى هكذا من أجلنا، موجهاً المواطنين بصوته الجميل وقوله المأثور: «ما دمتم بخير فأنا بخير»، بينما كان يدرك حجم الضغوط على مفاصل جسمه، وتداعياتها على صحته، وسط هذا الاهتمام غير العادي منه بأمن وسلامة الوطن والمواطن، وما يتطلبه ذلك من عمل متواصل يمتد من النهار إلى ساعات متأخرة من الليل وأحياناً حتى الصباح.
***
واليوم إذ يغيب عنّا هذا المناضل الكبير الذي أحببناه، والتف كل منا حوله، ومشينا جميعاً على خطاه، في رحلة كان فيها بيننا هو الفارس والمعلم الذي تعلمنا منه دروساً في الوطنية والإخلاص، ومعها الالتزام بالقيم التي تخدم تطلعاتنا نحو غد أفضل، ها نحن نخسر بوفاته من كان يحرك فينا الشعور بالمسؤولية نحو وطننا، ومن كان يلهب الحماس في كبيرنا وصغيرنا نحو الاستعداد والجاهزية لمواجهة أي تحديات بالقوة التي تستحقها، مبشراً بأن النصر والتوفيق حليفنا دائماً، فإذا بموته يشعل فينا من جديد -كما لو كان حياً بيننا- أهمية أن نتلقى الصدمة بوفاته بذات الوصية الخالدة التي كنا نفهمها من كلماته وخطبه وقراراته، متمثلة بأهمية التعاون والثبات على المبادئ لاستمرار مسيرة هذا الوطن قوية ورائدة كما تركها لنا -رحمه الله- بهذا المستوى من الأمان والاستقرار والنجاحات في كل المجالات والميادين.
***
ولعل خلفه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، بتاريخه وثقافته وإنجازاته والدور الكبير الذي لعبه في خدمة الدولة والشعب، وما يتميز به من محبة بين مواطنيه، هو خير عزاء لنا، فمن الملك عبدالله إلى الملك سلمان، نحن محظوظون لأن الخلف والسلف يتمتعان بنفس مهارات الحكم والقدرة في التعامل مع المستجدات، والحنو على المواطنين، والحرص على تتابع الإنجازات، بنفس القدرات والاستراتيجيات التي كانت صفات الملك عبدالعزيز ومن بعده ممن تولى حكم البلاد، والخسارة بوفاة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وإن كانت خسارة جسيمة ومؤثرة، بحيث لا نملك القدرة التي تمكننا دون أن نستسلم للبكاء، أو تحول دون أن تهل الدموع من أحداق عيوننا، ففي مقابل ذلك نملك الثقة والمعرفة بأن قيادة المملكة قد سُلَّمت ليد أمينة، لملك عركته الحياة العملية، وأينما توجهنا سنجد في إنجازاته وشهادات المواطنين ما تعبر عن أن المستقبل القادم موعود في عهده بالكثير مما هو ضمن دائرة اهتمامه وفي إطار تطلعات المواطنين، إذ إن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، يملك من التجارب والخبرة والحكمة والدراية، ما يجعلنا على ثقة بأننا من ملك إلى ملك باقون أقوياء -الدولة والحكم والشعب- ونراهن دائماً على المستقبل المضيء بفضل قياداتنا الحكيمة.
***
ومع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، هناك يقف أخوه وعضده الأمير مقرن بن عبدالعزيز في خدمة الشعب، فقد جدد الملك سلمان ثقة الملك عبدالله به، وأخذ بتوجيهه بأن يكون ولياً للعهد في حال خلو ولاية العهد، وهو بهذا إنما يختار في أخيه الأمير مقرن الكفاءة والمقدرة والحيوية والنشاط لخدمة هذا الشعب، وتحقيق آماله في التقدم والرقي والمزيد من التطور لهذا البلد الأمين، فرحم الله الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي قدم لأمته ووطنه الشيء الكثير، ووفق الله ملكنا الجديد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وأخاه ولي العهد الأمير مقرن بن عبدالعزيز في إدارة شؤون الدولة وخدمة المواطنين على النحو الذي رسمه الملك عبدالعزيز وسار عليه من بعده ملوك المملكة العربية السعودية رحمهم الله جميعاً وجعل الجنة مثواهم.