خلال سنوات عملي بالصحافة كمحرر متفرغ.. كتبت تحقيقات واستطلاعات كثيرة.. غير أن رحلتي للجبيل للكتابة عن النشاط الصناعي الكثيف فيها.. كانت حاسمة في بلورة بعض مفاهيمي عن الحداثة والإبداع.. بعيدا عن الكتب والكتابة.
كان علي أن أعيد تأمل مفردات الحداثة في ضوء الإبداع الصناعي.. الذي يقدم منتجا يوميا.. وينقله إلى آخر الدنيا.
قبل مصنع الحديد والصلب.. استوقفتني الصناعات (البتروكيماوية)، ومنها مصنع (الميثانول).. وصناعات المواد البترولية.. أي (نفايات) البترول المسال.. وهي مشتقات ينتج منها مواد استهلاكية.. وأخرى تدخل في صناعات كثيرة.
أنت الآن أمام الآلة التي تحوّل وتفرز وتكثف وتصهر.. وتوزع (الشيء) إلى عدة أشياء لا تعرف ما هي.
وهيا يا عم عبدالله.. تعال اكتب؟!
فورا.. رحلت مخيلتي إلى بداية عصر الصناعة في أوروبا.. وبدا لي كأني أعيد تأمل جانب ذلك الصراع الذي أخذ يدور ويصطخب بين إبداعين.
إبداع الأدب والفن الذي كان يتطور ببطء.. وإبداع العلم الذي كانت صناعاته تنهض ببطء.
بدا.. أن الرسام الذي كان يجلس يرسم الطبيعة بفضائها الواسع على مد النظر تشوشت الصورة أمامه.. ولم يعد الفضاء ممتدا وواسعا.. لأن كثيرا من الأراضي الجرداء.. أنشئت عليها مصانع.
وبدلا من السحب.. أو السماء الصافية.. تصاعدت أعمدة الدخان السوداء من منارات المصانع.. وبدلا من الهدوء المطلق.. أخذ الضجيج يعلو من هنا.. وهناك.
وأمام الشاعر والروائي نشأت بدلا من الحياة التقليدية حياة موازية بنتها المجتمعات.. أو التجمعات الجديدة التي أسست حياتها بالقرب من تلك المصانع التي تعمل بها.. وبدا أن الفن والإبداع الكتابي أصبح مجبرا على البحث عن منافذ أخرى للتعبير.. أي أن عليه أن يعيد صياغة مفاهيمه التي أصبحت تقليدية.. ويؤسس مفاهيم ولغة تعبير جديدة.. خاصة أن الإبداع الصناعي.. أخذ يزحف بأدواته الجديدة.. ويقتحم الحياة بمفردات جديدة.. ويجبر الناس على ابتكار أساليب جديدة في الحياة اليومية.. ويعيد تشكيل العلاقات الإنسانية.. خارج الإطار التقليدي الذي تأسست عليه.
وكان أهم عمل فني نقدي للاجتياح الصناعي.. هو فيلم شارلي شابلن (الأزمنة الحديثة).. والإبداع التشكيلي الذي شكل فيه بيكاسو علامة فارقة.. إضافة إلى لإبداع الروائي والشعري في فرنسا بشكل خاص الذي انطبعت به كل المرحلة التي تلت فيكتور هوجو.
غير أن الإبداع الصناعي هو أبو الحداثة.. وبدا أن الصراع كان يدور بينه وبين الكنيسة.. لكن تبلور الإبداع الصناعي وتسارع نموه جاء ليحسم الأمر لمصلحة الاقتصاد وليس لمصلحة الكنيسة، وجاء تطوره ليغير كل الحياة الإنسانية في علاقاتها ومصالحها ومفاهيمها.
بالعودة للجبيل..
كنت أقف مشدوها.. أسأل نفسي ماذا أكتب.. وكيف أصف ما أرى وأجعل القارئ يدرك.. ويتابع.. لأن الصور قالت عني كل شيء.. جعلته يرى قبل أن أجتهد وأصف.
قلت لنفسي:
- شايف يا ولد.. تري كل هذا كان مجرد أرقام وحسابات وخطوط هندسية وبعد أن كانت المواد الخام في باطن الأرض.. صهرت.. ودخلت (قوالب) حددت هويتها ودورها ووفق حساباتها والتصميم الهندسي لها.. تم جمعها وأصبحت بالشكل الذي تراه.. لكن ليس كشكل منى, وإنما كتصميم عملي تدخل إليه المادة الميتة.. لتخرج من الجانب الآخر مادة حية (تجيب) للبلد (فلوس) كثيرة.. وتقدم لآخرين يستعينون بها لإنتاج مواد جديدة يحتاج إليها الإنسان وتعيد در المال.. أيضا.
من يقول إن الآلة جامدة.. وهي تتحدث بلسان الإنسان الذي صنعها.. وتقدم له المنتج الذي بناها لإنتاجه.
يبدو إلي أن موت الفنون اللغوية أصبح أمرا محسوما.. ولا يحتاج لأكثر من مئة سنة قادمة.. وإن كنا لا ندري إلى أين سوف يقودنا الإبداع الصناعي القادم.
وإن كانت الموسيقي ستبقى هي الفن الإنساني الأرقى على الإطلاق.
- عبدالله باخشوين