سبْحانَ مَنْ لا يتغير بتغير المكان، أو الزمان؛ أمَّا المخلوق، فالتغير السوسيولوجي الواقع عليه، ينتج عنه تغير سيكولوجي مصاحب بالضرورة، وطالما العلاقات الجدلية قائمة بين الإنسان ومكونات الطبيعة مستمرة، استمرت الحياة، بكل تفاصيلها المعيشة.
وما من مكان إلا وله تأثيراته الواضحة على جنس الإنسان، وفق علماء الإنثربولوجيا، علم الإنسان «Anthropologie»، فالأجناس البشرية تصنف مكانيًا، قوقازي، آري، زنجي.. إلخ، كلها تصنيفات جغرافية تبعًا للمكان، وعلى مرْ التاريخ أبدًا لم يتشابه إبداع أهل الصحراء مع إبداع أهل المدينة، أو المجاورين للماء، سواء البحار والمحيطات، أو الأنهار، فطبيعة المكان تؤثر إيجابًا وسلبًا على الإنسان، تكوينه، أعرافه، مزاجه، إنتاجه، إبداعه. وهنا تداخلت، أو توسعت دائرة بحث علماء الإنثربولوجيا، لتشمل العلاقات الثقافية بالمكان أيضًا، وبشكل دال على التأثيرات المكانية على الإنسان، ومدى قدرة هذه التأثيرات على إنتاج وتطوير أنواع جديدة للفنون بشكل عام، وللأدب خصوصًا، وتتبعها على مدى العصور.
وعنى هذا العلم بدراسة الجانب الثقافي، حسب كتاب الإنثربولوجيا الطبيعية والثقافية «علم الإنسان الطبيعي» للدكتور أزهري مصطفى صادق.
- «بمعنى النظر إلى الإنسان باعتباره الكائن الوحيد الحامل للثقافة، وباعتباره الوحيد الذي يملك زمام الاتصال من خلال اللغة، وباعتباره أيضًا يملك العديد من طرق التربية أو التنشئة الاجتماعية... فالأنثروبولوجيا الثقافية إذن، تهدف إلى فهم الظاهرة الثقافية وتحديد عناصرها. كما تهدف إلى دراسة عمليات التغيير الثقافي والتمازج الثقافي، وتحديد الخصائص المتشابهة بين الثقافات، وتفسِّر بالتالي المراحل التطوّرية لثقافة معينة في مجتمع معين».
هذا يقودنا باختصار شديد، ومن أقرب مواضع التفكير، إلى أنَّ للمكان تأثيره الكبير على الإبداع، والأدب، خصوصًا؛ لما له من تأثير سوسيولوجي مصاحب للتغير المكاني، وذلك ما أكَّده المؤرخ الشهير ابن خلدون في مقدمته، حين قال «الإنسان اجتماعي بطبعه»، هذه الاجتماعية التي وصف بها الإنسان، مهَّدت له السبيل ليكوِّن جماعات وقبائل، ومن خلال التعارف، وفق أعراف المكان الذي شكلته هذه الجماعات، إضافة إلى مفهوم الاستنارة -كما أوضحه الدكتور جابر عصفور في كتابه «الرواية والاستنارة، الصادر عن مجلة دبي الثقافية، نوفمبر 2011»-، خرجت أنواع أدبية تم إرجاع الفضل المباشر في صياغتها بالشكل الذي خرجت عليه إلى المكان، لما لها من خصائص متشابهة يمكن جمعُها وتصنيفُها مكانيًا، وظهر ذلك جليًا في مجمل تاريخ الأدب، سواء العالمي، أو العربي، مما ولَّد حالة جدلية ما بين المكان والنص، كلاهما ينعكس على مرآة الآخر، حسب المفهوم الذي ساقه الدكتور عصفور في كتابه المرايا المتجاورة، وفكرته عن المدارس الأدبية، وكيف أن كل فعل إبداعي ينتمي إلى مدرسة ينعكس على مرآة المدرسة الأخرى، كل ما نريده الآن، اكتشاف أبعاد وتأثيرات المكان، سواء في أدب الغربة، أم في غيره من الأنواع الأدبية التي مثَّل المكان فيها دور البطل الرئيس، الفاعل، أكثر من كونه مجرد خلفية أحداث لموضوع الرواية أو القصيدة، في محاولة لتشكيل وعي جديد لمصطلح أدب الغربة، ومدى اعتباره كمصطلح يمكن دراسته، أو تجاوزه لمطاطيته، بمنطق التفكير كما ورد في كتاب «التحريض ولادة قيصرية»، الصادر عن دار أوراق، يناير 2014، لكاتب هذه السطور:
- «التفكير هو محاولة البحث عن حلول لأسئلة مطروحة، وإعادة تشكيل أو صياغة المعطيات، لتقديم هذه الحلول، بما يتناسب والعقلية التي تبحث لتطوير ذاتها بجدية».
وفي موضع آخر من الكتاب نفسه:
- «في الفكر الحر، هناك مراحل كثيرة متدرجة ما بين الأبيض والأسود، الفكر ليس طرفي نقيض من القضايا على شكل مطلق، بل مساحات شاسعة شسوع العقل الرحب الذي خلقه الله ليفكر ويتدبر».
أو كما يراه المفكر الجزائري الدكتور محمد أركون، من أن التفكير هو إعمال العقل في اللامفكر فيه، إذ تقودنا كل التعريفات العقلانية إلى عدم التسليم بكل ما يصادفنا، بدعوى أنه من الثوابت التي يحرُم الاقتراب منها، أو خلخلتها، لإعادة صياغتها بما يتناسب والعقلية التي تتناوله بالدراسة والتفكير.
ما حدا بالباحث الدكتور محمد حسن عبدالحافظ إلى طرح وجهة نظر متقاربة مع كل التنويرين أمثال أركون وعصفور، وكثيرين غير هؤلاء، بالتأكيد على أن القصور العربي ذاتي بفضل اجترار ما أسماه بالأنا الميت، واجترار الماضي، إضافة إلى عدم إمكانية التحرر من هذا القصور إلا بالتحرر من التبعية، وأهمها التبعية الاقتصادية، يقول في ورقته التي أعدها عام 1999:
- «إن فعالية الثقافة تتحدد في مدى امتلاكها - أو قل: امتلاكنا - القدرة على مقاومة القصور الذاتي والاجترار والاستهلاك، وقدرتها/قدرتنا على تأسيس منظومة الاعتماد على النفس والتحرر من التبعية، بتحرير اقتصادي ينهض على تنمية مستقلة منتجة وعادلة في التوزيع؛ إسهامًا في ترقية خصائص حامليها، وتأسيسًا لنسق قيمي إيجابي، وتجاوزًا لنقائض تراث الأنا الميت، وحاضر الآخر المهيمن. ولا مناص - عندما يتوقف المجتمع عن إنتاج المعنى لحياته ورغباته وإرادته - من ابتلاع القيم الثقافية المادية والرمزية التي بناها أجدادنا وآباؤنا، ولا يبقى أمامنا غير التزود بزاد ثقافي جاهز ليس من جنس نيلنا وطيننا وهوانا، تتم زراعته في كهف الماضي التليد غير الحيوي في حياتنا، أو تخليقه في معامل الحاضر العولمي الذي لم نشارك فيه».
ومع اتفاقنا مع وجهات النظر التي تدعو إلى إعادة إنتاج الوعي الثقافي بما يتناسب والعقلية التي تعيد هذا الإنتاج، بمفهوم التحرر الكامل، سواء على المستوى الاقتصادي حسب رؤية د. عبدالحافظ، في ورقته، أو حتى الفكري «التغريبي»، أو التوغل في عمق الصحراء العربية من خلال التأثيرات التي أصيب بها المغتربون في الدول النفطية، وحين عادوا إلى أوطانهم، حاولوا فرض ثقافة الصحراء والتي لا تتناسب مع ثقافة البيئة الزراعية، أو الحضرية، أو حتى المغتربين نحو أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، حاولوا أيضًا فرض ثقافة مغايرة على ثقافتنا، أو ما اصطلح على تسميتهم «دعاة التغريب»، وعلى الرغم من الحرب التي شنت على دعاة التغريب كان في المقابل احتفاء كبير بالمستعربين، كتسمية بديلة عن «المستشرقين» بعد اتهامهم بأنهم كانوا سفراء الاحتلال قديمًا وحديثًا.
مفاهيم راسخة
بعيدًا من نظريات الوصل والقطيعة مع الماضي؛ فإنَّ ما سبق يقودنا بالضرورة إلى الاتفاق على محاولة صناعة معنى ما، قادر على تغيير المفاهيم الراسخة في الوجدان الثقافي، بدلاً من التخندق داخل مفاهيم جامدة، مثل الرضا التام، وبمنتهى الثقة في كل ما وصلنا من موروث عبر أناس مثلنا، لهم حق الصواب والخطأ، فرضينا أن نقبل ما يقولونه، قبل أن نطلع على ما ينقلونه، ومن دون نقاش، ليكون النقاش والجدل المحتمل حول المكتوب عن الموروث، لا الموروث نفسه، وأيضًا من دون الالتفات إلى استيراد ثقافة غريبة أو «غربية» لا تتناسب والموروث الوجداني للشعوب العربية «العرف»، في مقابل رفضنا القاطع أيضًا، عدم استيراد مفاهيم الصحراء عن الدين أو الثقافة بوجه عام، في محاولة لخلق إبداع يستحق أن يكون خروجًا على النص، ومن ثم يستحق تسميته بالإبداع الحقيقي، بعيدًا من التكرار المقيت سواء على مستوى الموضوع أو الشكل في مختلف فنون الإبداع.
من هنا، كان البحث عن نقطة نقف عندها، لقبول أو رفض التصنيفات الأدبية والتسميات والأنواع التي أطلقها أناس مثلنا على أنواع أدبية بعينها، باعتبارها أنواعا أدبية، لا باعتبارها إبداعا محضا، وإنما كان الاهتمام بكون العمل ينتمي أو لا ينتمي إلى المدرسة الفلانية، ونسي المصنفون أن الإبداع سبق التنظير، وأن الشعر مثلاً، سبق تنظير الخليل بن أحمد الفراهيدي واكتشاف أوزانه الخمسة عشر، وتلاه الأخفش بالمتدارك، كل هذا يدل على أن الإبداع أولاً، ومن بعده كانت النظرية.
ليبقى السؤال الذي نتغيا الوصول إلى إجابة تبدو مرضية في الراهن:
- هل كل فعل إنساني يعتبر إبداعًا من نوع ما، أم قد يفرز إبداعًا ما، أم أن الإبداع خروج على الفعل الجمعي، بفعل مخصوص؟
- «الإبداع خروج على النص، هو تجديد الحياة، فيكون اليوم غير الأمس، وليكون المستقبل أكثر جمالاً وإمتاعًا وإشراقًا وصوابًا بفضل الفعل الاجتماعي النشط. لهذا تتميز حياة الإنسان عن حياة الحيوان بأنها ليست امتدادًا تقليديًا، ولا اطرادًا عفويًا، ولكي تكون حياة المجتمع إنسانية الطابع والطبيعة حقًا لابد وأن تكون متجددة دومًا أي حياة إبداع مطرد».
وذلك وفق ما ذكره الباحث المصري الدكتور شوقي جلال في كتابه «من وحي الشرق» الصادر عن سلسلة كتاب العربية 75، ويدفعني هذا التصور، إلى أن أردد معه هذه الرؤية لمفهوم الإبداع، باعتباره خروجًا على النص داخله التجدد المستمر للمفاهيم الكونية.
وتقول الكاتبة السورية ريمة الخاني في مقال لها نشر في العدد الثامن من مجلة فكر، تحت عنوان مفهوم الإبداع «الإبداع هو القدرة على تكوين أبنية أو تنظيمات جديدة... إن مسيرة الإبداع هي مسيرة التعب والصبر».
خروج على النص
ووفق مفهوم الإبداع الذي سقناه؛ فإن أول نص تمت كتابته حمل في مضامينه كل التصورات التي يمكن قولبتها لتكوين مفهوم أدب الغربة، هو وحده الذي يمثل إبداعًا، وخروجًا حقيقيًا على النص، أمَّا كل ما جاء بعد ذلك -في نظرنا- لا يعدُّ خروجًا على النص، ومن ثم لا أعتبره إبداعًا، بل سأبعد أكثر من ذلك، حين أقول إن المدارس الأدبية اعتبرت في بداياتها خروجًا على النص «إبداع»، ثم أصبحت هي نفسها «النص» الذي خرج عليه كثيرون، مشكلين مدارس أخرى، لتأخذ المفهوم الإبداعي نفسه الذي سقناه، فكل عمل إبداعي يحمل داخله التطور الذي يؤهل العمل الذي يليه ليكون إبداعًا، وليس مجرد اتباع.
وفي السياق الجدلي «الديالكتيك» ذاته، يمكننا وصف أدب الغربة بالظاهرة، بحسب الماركسية؛ إذ يمكن اعتبار المكان، والنص والمبدع، والحزن المصاحب بالضرورة للمبدع، مكونات ثابتة في أدب الغربة، تكون هذه العناصر مجتمعة ما أطلق عليه «أدب الغربة»، ما يعني جموده، وهذا ينفي عنه التطور الناشئ عن الجدل الإيجابي، ما بين عناصر العملية الإبداعية، ومتى ما تم نفي التطور عن الإبداع شكلاً أو مضمونًا، خرج عن دائرة الإبداع القائمة في الأساس على تطور العلاقة الجدلية بين المبدع، وبين تفاصيل الكون من حوله.
على كلٍّ؛ يمكن أن نخلص إلى أن مفهوم «أدب الغربة» وحَّد الأسباب المكانية التي من شأنها خروج نصٍ -لا يعتبر خروجًا على النص-، سواء أكان شعريًا أم نثريًا، خلفيته مكانية، بغض النظر المتعمَّد عن سوسيولوجيا النص، معتمدًا مشاعر الحزن في كل النصوص التي اندرجت عمدًا تحت هذا النوع من الأدب، رغم تداخل المصطلحات وعدم دقتها أحيانًا، وبقي هذا التداخل تحت هذا النوع من التصنيف بين مفهوم الغربة والاغتراب، وحلَّ أحد المفهومين محلَّ الآخر كثيرًا، مما زاد التشابك بينهما، والبون بينهما شاسع شسوع المكان خارج الإنسان، وشعوره بالاغتراب داخله.
وكانت الصعوبة أن يتحد المكانان في عمل أدبي، ليعبِّر عن التقاطع الحتمي بينهما، حين يكون العمل إبداعًا، وليس مجرد نظم قافية تلو أخرى في الشعر، أو كتابة فصول رواية تتشابه، ولا تدري حين تنهي القراءة أين كنت، ولا بأي فائدة خرجت.
بين الغربة والاغتراب
لو لم تكن العنصرية داءً إنسانيًا، لما أطلقنا على كل انتقال أو هجرة في المكان «غربة»، لما لهذا الانتقال من تأثير سوسيولوجي حقيقي على المغترب نفسه، ومن ثم قد يستطيع الاندماج في المجتمع الجديد الذي ينتقل إليه، وحتى لو تحولت إقامته إلى هجرة دائمة، اختيارية، يظل غريبًا، من واقع غربته عن أرضه الحقيقية التي نشأ فيها، أو هو يرى ذلك، لكن ما يشعره أكثر بغربته هو الداء الإنساني الذي يغذيه كلُّ من أراد الفرقة بين البشر «عنصريًا»، حتى من قبل فكرة شعب الله المختار «اليهودية»، وحتى من قبل التمايز القبلي في الصحراء، وإلى التمايز بين الأبيض والأسود، والشمالي والجنوبي، والسني والشيعي، والمسلم والمسيحي، التي بثَّ سمومها وروَّج لها المحتل الذي لم يجد بذرة من بذور الفرقة بين أبناء البلد الواحد إلا وغرسها في تربته، وبقي يراقبها مستثمرًا طبيعة الداء العنصري في نموه الطبيعي، وحتى أوروبا لم تسلم من داء العنصرية التي يتهمها البعض بمحاولة تصديره إلينا، رغم أنَّ العنصرية في رأينا كما سبق وأشرت داء إنساني.
وبفضل هذه العنصرية، صارع المبدع مكانين، الأول «جغرافي»، وعلى الجانب الآخر من هذه الغربة، هناك من لم يخرج من أرضه من الأساس، لكنَّه يعيش انعزالاً نفسيًا، ولا يستطيع التأقلم مع مجتمعه، لذا يشعر باغترابه، حتى وهو لم يبتعد عن المكان خطوة واحدة، ويزيد هذا الشعور، إلى أن يتحول إلى شعور مرضي، يستلزم العلاج، هنا يتداخل «السسيولوجي» و»السيكولوجي»، حد الانصهار، ويتقارب المصطلحان، إلى الدرجة التي يحل أحدهما مكان الآخر، من دون تحديد دقيق لكل مصطلح، وشرحه.
ويضيق المكان، إلى أقصى درجات الضيق، حين صوَّر ذلك القرآن الكريم في قصة نبي الله يونس، بحبسه في بطن الحوت، الذي يمكن اعتباره «سجنًا»، عقابًا له لاستعجاله وخروجه عن قومه الذين لم يؤمنوا بنبوته، كما جاء في سورة الصافات، الآية 142، «فالتقمه الحوت وهو مليم» أي ابتلعه، والتسبيح سببية خروجه مرَّة أخرى من بطن الحوت، كما أخبرنا القرآن الكريم (فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون»، فكان التسبيح سرَّ نجاته، وهنا أيضًا، يبرز عنصر المكان واضحًا جدًا، باعتباره البطل الحقيقي في الحكاية، كما يرويها القرآن الكريم، فالحوت، رغم أنه كائن حي، إلا أنه استعمل هنا كمكان، وليس بصفته الحيوية، بل ولعب دور الفاعل في ابتلاع يونس، وجاء السياق تلقائيا، على عكس الأمر الإلهي للنار أن تكون بردًا وسلامًا على نبيه وخليله إبراهيم -عليه السلام-، فكأن التقام الحوت ليونس كفعل تلقائي، ليفتح الباب رحبًا للتخييل أمام القارئ لحجم وقوة الحوت الذي سخِّر لأداء مهمة محددة «مكانية»، ليفهم الأمر الإلهي ضمنًا في ذلك.
على كل ليس التفسير موضوعنا، بل استخدام الحوت كمان، له دلالته، هي إمكانية أن يكون المكان حيَّا، وليس بالضرورة أن يكون مجرد حجارة، وجدران متهدمة، وما إلى ذلك مما صوَّره الشعراء والكتَّاب، وهنا كان التصوير القرآني، بمثابة الخروج على النص، أو إن شئنا الدقة، كان بمثابة الإعجاز اللفظي والبلاغي في استخدامه المكان كعنصر فاعل.
كثير من المبدعين الذين اغتربوا «مكانيًا» وتغرَّبوا «نفسيًا»، وجدوا حلاً جذريًا ينهي مشكلتهم المكانية والنفسية، بالحديث عن الأرض بوصفها الأم لكل البشر، في محاولة منهم للقضاء على الداء العنصري، الأمر الذي دفع الشاعر الفلسطيني محمود درويش أن أطلق على نفسه لقب «شاعر الأرض»، والبعض استهوته هذه الغربة المكانية، والاغتراب الداخلي، واستثمرها من أجل إنتاج أعمال تلقى الصدى المنشود، وفق الظرف الجغرافي والنفسي الذي يمر به المبدع من وجهة النظر التي يتوقعها من المتلقي، فأصدر كثيرون أعمالاً مزجت مزجًا صريحًا بين المكاني والنفسي، حتى ليختلط الأمر عند المتلقي، ولا يستطيع التفريق بين الغربة الحقيقية، والاغتراب النفسي الذي عاناه المبدع قبل وصول النص إليه، أو وصوله إلى النص، مثل أعمال مدرسة المهجر، وأشعارها التي مزجت بين المكاني والنفسي، وأشعار نزار قباني، ومظفر النواب، وأمل دنقل، وغيرهم الكثير ممن يستطيع الناقد بسهولة العثور على هذا الجزء المخبوء من مشاعر الغربة والاغتراب معًا في نص واحد، لترى لمعان الانعكاس على مرايا باقي النصوص التي صُنِّفت تحت هذا النوع «أدب غربة»، قبل أن يفكر بعض الشعراء في الخروج من أرضه، اعتراضًا مثلما فعل محمود درويش حين خرج من حيفا، تاركًا جواز سفره الإسرائيلي، ليعلن مرحلة اغترابية أخرى في شعره، مؤكدًا أنه للطريق الذي يسير في اتجاهه، وهو البحث عن حرية الأرض وحريته هو أيضًا كشاعر عن طريق انعتاقه من المكان المحدد وفق جواز سفر مفروض عليه حمله، لا يحدد هويته الفلسطينية.
واستثمر الشعراء خصوصًا حالة الاحتلال الإسرائيلي، فنظموا أشعارًا كثيرة دالة على الغربة والاغتراب معًا، لأن هذا النوع كان رائجًا جدًا شعبويًا، بسبب المحتل الذي أقصى الجميع، وبقي هو مهيمنًا على الأرض، حتى صار الشاعر الفلسطيني يجمع في شعره ما بين الغربة والاغتراب معًا، رغم أنه هو أول المبدعين بالتعبير عن مشاعر التمكين من الأرض رغم أنها محتلة، لأنه لا يزال فيها، ولأن مشاعر اغترابه عن أرضه وهو فيها، وعبَّر عن هذه الحالة كثيرون، دلالة انتصار المحتل على الإبداع العربي سواء نفسيًا، أو مكانيًا، ولأن هؤلاء الشعراء انزلقوا طوعًا في هذا التصنيف، فسرَّبوا مشاعرهم الأدبية، والتي قد لا تكون على الحقيقة في بعضهم، معتمدين على احترافية النظم، ورغم ذلك كان المكان أيضًا هو محل الخلاف، سواء في حضوره أو غيابه في شعر الغربة، كما التصنيف التقليدي.
وقد عبَّر شعراء غير فلسطينيين، مثل الشاعر العراقي مظفر النواب عن حال التخاذل العربي تجاه التعامل مع القضية الفلسطينية والاحتلال في قصيدته الشهيرة «القدس عروس عروبتكم»، فبدءًا من عنوانها، بدا المكان طاغيًا على مشهد القصيدة، من مطلعها وحتى النهاية.
«القدس عروس عروبتكم
فلماذا أدخلتم كلَّ زناة الليل إلى حجرتها
ووقفتم تستمعون وراء الباب لصرخات بكارتها
وسحبتم كل خناجركم
وصرختم فيها أن تسكت صونًا للعرض،فما أشرفكم».
شعراء كثيرون سلكوا النهج نفسه، ورأوا أن مشاهد المحتل اليومية عبر التلفاز هي المحفِّز للشعر، فكتبوا من دون إبداع حقيقي، يمثل خروجًا على النص، ليكون إنتاجهم إبداعًا، وليس مجرَّد نظم، مثلما فعلوا، وضعوا الاحتلال نصب أعينهم وتنافحوا في كتابتهم أيُّهم أكثرُ قدرة على التعبير عن مشاعر الغربة والاغتراب، سواء داخل الوطن المسلوب، أو خارجه، من خلال اجترار مشاعر الحب لوطن بعيدٍ جغرافيًا، وفي القلب مكانه، ومع التقدم زمنيًا، وظهور مواقع التواصل الاجتماعي، كانت التأثيرات التي سنناقشها فيما بعد على هذا النوع من الكتابة، وفق مفهوم التأثيرات المكانية في الإبداع.
وشجَّع على هذا الاتجاه، ما روَّج له الغرب من مفاهيم «العولمة»، التي فسَّرها كل طرف حسب هواه؛ لكن - في رأينا- أن مصطلح «العولمة»، لم يظهر إلا لتغييب دور المكان وخصوصيته، فيكون البشر جميعًا أبناء الأرض، سواء مبدعا، أو رجل شارع، أو حتى محتلا، والمصلحة تصب في خانة الأخير، ليضيع مفهوم مقاومته، لأننا -حسب العولمة- كلنا في غرفة واحدة، بدلاً من القرية الصغيرة الواحدة، للتقريب أكثر بين البشر، لتمرير كل مخططات إسرائيل، في محاولاتها المستميتة في تطبيع علاقاتها السياسية والاقتصادية مع البلدان العربية، لربط اقتصاد هذه البلدان باقتصاد إسرائيل، فيكون بإمكانها إخضاع الجميع، سواء على المستوى السياسي، أو الجغرافي، لأن -وفق مفهوم العولمة- أيضًا، تحكمنا الشراكة الاقتصادية التي سيكون حال تحققت، من الصعب الفكاك منها، لنعود مرَّة أخرى لتأكيد ما جاء في ورقة د. محمد حسن عبدالحافظ من أن فاعلية الثقافة تأتي من التحرر من التبعية، بتحرير اقتصادي، وليس العكس، فالمبدع سواء كان ابن الأرض، أو «متعولم»، فلا يخدم إلا غيره، بشيوع الأرض للجميع، رغم شسوعها.