الآن وبعد أن هدأت موجة الغضب الذي سادت فرنسا جراء جريمة الاعتداء على مقر مجلة شارلي أيبدو ومقتل رساميها والعاملين بها، يحق للفرنسيين قبل غيرهم أن يراجعوا حيثيات الجريمة، ومسبباتها والدوافع التي جعلت من المجلة ورساميها هدفاً للمجرمين الارهابيين.
نحن هنا لا نبرر ارتكاب جرائم الارهاب مهما كانت الأسباب إلا أنه وفي المقابل يجب ألا نوفر ونعطي المبرر للارهابيين والمجرمين لارتكاب جرائمهم، فهؤلاء ورغم أنهم ليسوا بحاجة إلى أسباب ومبررات لارتكاب الأعمال الارهابية، إلا أن المنطق، والتعامل الصحيح يفرض سد جميع الذرائع التي تدفع الارهابيين وتشجعهم على ارتكاب أعمالهم الارهابية.
ودون أي تعاطف أو تأييد للفعلة الشنيعة لجريمة ارتكاب قتل رسامي مجلة شارلي أيبدو ومحرريها، لابد من الاشارة إلى أن المجلة ذهبت بعيداً في استفزاز المتشددين، بل وحتى الذين لا يقرون الارهاب ومعالجة الخلافات بالعنف، فهذه المجلة جعلت من (السخرية) بالمسلمين ونبيهم هدفها الأول، وكأن لا هدف لها إلا هذا العمل، وكأنها وبهذا العمل الاستفزازي تستدعي الارهابيين وتدعوهم لاستهدافهم وأن يكرروا مهاجمتهم بعد تعرضهم لهجوم سابق.
كما أن إعادة النشر للرسوم المسيئة مرة أخرى وبنسخ وصل إلى ثلاثة ملايين نسخة يعد استفزازاً آخر، وعلى القائمين على المجلة ألا يفسروا التعاطف مع أسر الضحايا وحتى المجلة لتعرضها لعمل ارهابي اجرامي بشع، على أنه تأييد مطلق لاستفزازها للمسلمين، فالذين شاركوا في مظاهرة رفض الارهاب التي جرت في باريس وشارك فيها ممثلون من دول إسلامية وأوروبية لا يؤيدون نشر رسوم مسيئة، ومشاركتهم كانت تعبيرا عن رفض الارهاب وليس التأييد المطلق لما يسمونه في أوروبا بحرية الرأي غير المنضبطة بل وحتى المنحازة، فهذه المجلة وغيرها من وسائل الاعلام الفرنسية والأوروبية لا تجرأ على التشكيك في مجزرة حرق اليهود، فمجرد الحديث عن واقعة تاريخية يعرض الوسيلة الاعلامية وقائها صحفياً بل وحتى مفكراً كالمفكر الفرنسي روجيه جارودي الذي حوكم أمام المحاكم الفرنسية على ما تضمنه كتابه (الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل) وشكوكه في محرقة الهيلكوست.
مفكر بقامة جارودي يحاكم ويسجن لأنه شكك بواقعة تقبل الصواب والخطأ، أما الهزء والسخرية من الأنبياء والرسل فحرية الرأي تكفلها، والسخرية هنا أن القوانين الأوروبية والغربية جميعاً تحمي وتحصن الخرافات اليهودية في حين تطلق العنان للسخرية من الأنبياء والرسل بما فيها نبي الله محمد وعيسى صلى الله عليهما وسلم، أي تعامل هذا.
هذا التعامل غير العادل هو الذي أطلق الأفكار الارهابية وأعمال العنف مع أن الرد على الاستفزاز والتجاوزات الفكرية يجب أن يكون بنفس الوسائل أو بطرح الأمر أمام القضاء، وهو ما يجب أن يكون أسلوب مواجهة استفزازات وسخريات كل من يتعرض للأديان وغيرها من الأفكار النبيلة، وما كان لأصحاب مجلة شارلي أيبدو أن يستغلوا موجة التعاطف ويضاعفوا من استفزازاتهم للمسلمين الذين حتماً سيكون رافضين لاستفزازهم الأخير دون أن يكون لهم دور في تشجيع الارهاب وانتهاج العنف لمواجهة الاستفزاز.