يبدو أن (دبي) مدينة البحر الدافئ الهادئ، والصيادين، واللؤلؤ و»التجارة» في «كل شيء» مع - كل - عابري أطراف المحيط الهندي.. إلى بحر العرب.. إلى مضيق «هرمز».. إلى داخل الخليج قديماً، والتي غدت (مشتىً) لرجال المال والأعمال والقادرين وكبار فناني العالم ونجومه..
.. (حديثاً)، ستصبح إحدى محطات أسفاري القليلة التي لم تكن لتتعدى (القاهرة) و(بيروت) و(ديفون) سنوياً، فإن تجاوزتهم.. فإلى (صنعاء)، التي فتنتي منذ إطلالتي الأولى عليها في نهاية سبعينيات القرن الماضي.. فهذه هي زيارتي (الرابعة) لها على مستوى عضويتي في (منتدى التنمية) الخليجي.. الذي اضمحل فيما أعلم، والثانية لها.. ضمن برنامج صحيفة الجزيرة (دوماً.. معاً)، الذي ابتكرته منذ ثلاثة أعوام لتجمع فيه أطراف (العملية) الصحفية (كلهم): من رجال الأعمال وكبار المعلنين وشبابهم.. إلى أعضاء المؤسسة وزملائهم في المؤسسات الصحفية الأخرى.. إلى صحفييِّ الجزيرة وكتابها وزملائهم من الصحف الأخرى.. إلى مخرجي الصحيفة وجامعي أخبارها ومقالاتها ورسامي (كاريكاتيراتها) ورؤساء أقسامها السياسية والثقافية والفنية والرياضية.. في لقاءات غير رسمية - بلا «بشوت» أو «بابيون» - ثلاثة أيام بلياليها.. ليشاركوا في ورش عملها غير المرهفة صباحاً، وليتسامروا مساءً.. وليتفقوا ويختلفوا في حواراتهم السياسية والاقتصادية والتنموية والصحفية الضحوية من تلك الصباحات.. لتنفض جلساتها المختصرة في النهاية مع قفشة من هنا أو (نكتة) من هناك - بينما شباب صحفيي (الجزيرة) وما أكثرهم يصيخون أسماعهم - وهم - بينهم.. لالتقاط فكرة من هنا.. أو رأي من هناك.. أو تعليق صائب من أي منهما.. ليتكامل بها عمل الصحيفة فيما تقدمه لقرائها الكثر كل صباح، فهي (الأولى) في مدن القصيم و(الثانية) في مدن الوسطى والمنطقة الغربية!!
* * *
بعد ساعتين ونصف الساعة.. من مغادرة مطار جدة.. كانت الطائرة الإماراتية تهبط بي.. في مطار (دبي) أو هيثرو الخليج أو (أورلي الخليج) على الأقل (!!) فهو مثلهما اتساعاً وضخامة.. وهو مثلهما أناقة ونظافة.. وهو أفضل منهما تسوقاً.. في سوق حرة، لا أول لها ولا آخر وقد اكتظت متاجره وأركانه وممراته بأفخر وأجمل منتجات أمريكا وأوروبا وأفريقيا وآسيا بـ(يابانها) وصينها وهندها و(كوريتيها)، فليس في معروضات (مطار دبي) بأدواره ومصاعده (النوحية) الواسعة، وعربات (جلفه)، وقطاره الداخلي الحريري في سيره واللامع في مظهره ومقاعده.. ما هو (ممنوع)!! حتى ليبدو (المطار) وكأنه التجسيد النموذجي الحي لـ(اقتصاد السوق) وفلسفة العرض والطلب والتلبية الديناميكية لما يحتاجه - وما لا يحتاجه - المستهلكون.. القادمون إلى (دبي) أو العابرون بمطارها إلى الهند والفلبين وأندونيسيا واليابان وسنغافورا أو أستراليا، ليستوقف انتباهي أحد رفقاء الرحلة ووجهائها - ونحن ننتظر معاً لحظة وصول حقائبنا - بـ(تعليقه) اللاذع الدامع عندما قال: (لو أن رجال الطيران المدني لدينا.. قدموا إلى مطار دبي، ورأوا ما رأينا.. لانتحروا)!! فرددت - مهوناً عليه -: لنقل.. لبكوا من تواضع وتقشف مطار جدة الدولي وبقية مطاراتنا!!
لينتهي سيرنا.. إلى ردهة المستقبلين والمستقبلات لـ(القادمين).. لأجد في مقدمتهم أحد نجوم شباب صحيفة الجزيرة أخي وصديقي العزيز.. المحاضر الباحث والصحفي الأديب الأستاذ محمد الفيصل، الذي أصر على أن يكون في استقبالي تلطفاً وتكرماً وتفضلاً منه رغم وجود مجموعة من شباب صحفيي الجزيرة في المطار.. لاستقبال ضيوف برنامج (دوماً.. معاً)، لكنه أراد أن يضيف إلى سابق أفضاله في ضبط مقالاتي (الأحدية) كل أسبوع.. بعد إجازتها من أخي الأستاذ خالد المالك - منقذ (الجزيرة) - بعودته إليها، وبتشكيله مع رئيس مجلس إدارتها الأستاذ مطلق المطلق، ومديرها العام الأستاذ عبداللطيف العتيق.. (ثلاثياً) صحفياً وازى في نجاحاته ثنائية (فهد العريفي) و(تركي السديري) في صحيفة (الرياض)، و(إياد مدني) و(هاشم عبده هاشم) في (عكاظ).. اللتان كانتا مضرب المثل في زمانهما في التعاون والتفاهم بين (الإدارة) و(التحرير).. اللذين يمثلان بوابة النجاح (الحقيقية) لكل صحف العالم المعشوقة من قبل الناس والمعتبرة والمهابة من قبل الحكومات..!! ليخيرني الأستاذ محمد.. بين (أمرين) وقد أخذنا موضعنا في داخل العربة التي قدم بها: إما أن نذهب من فورنا إلى استراحة (باب الشمس) على بعد ستين كيلاً.. لنستكمل يومنا مع بقية ضيوف (دوماً.. معاً) الذين سبقونا إليها، أو أن أرتاح من وعثاء السفر (!!) إلى السابعة مساء لنلحق عندها بـ(حفل العشاء) الذي ستقيمه (المؤسسة) لكل ضيوف برنامجها (دوماً.. معاً)..؟
فقلت له ضاحكاً: لقد كنت على ظهر الطائرة.. وكأنني الملك الأسطوري (شهريار) وهو يعيش أجمل لحظات رضاه مع (شهرزداد).. زوجته وحبيبته التي روت أحداث وأحاديث لياليه في ألف ليلة وليلة.. ظلت موضع إلهام لكل كتاب الرواية في العالم.. إلى يومنا هذا، إلا أن فكرة الراحة الفاصلة.. بين (نشاطين) تظل هي الأفضل - وكما ارتأيت - وهو ما كان..؟
* * *
بعد استلقاءة لم تطل.. بين النوم واليقظة، كنت عند السابعة مساءً في بهو الفندق.. وسط حشد من الأصدقاء والزملاء من الإعلاميين والصحفيين ورجال الأعمال والإعلان.. ممن فاتهم - مثلي - قضاء سحابة النهار في استراحة (باب الشمس).. وهم يستعدون للذهاب إليها أفراداً وجماعات، وقد وفرت إدارة مهرجان (دوماً.. معاً).. ما يكفي من السيارات الكبيرة والصغيرة.. لنقلهم إلى هناك، لأستقل بصحبة أخي الأستاذ محمد.. الذي أصبح منذ وصولي لـ(دبي).. وإلى لحظة مغادرتي لها: مطوفاً - بلغة الحجازيين - ومرشداً لي.. إحدى العربات، وقد انضم إلينا الأديب الأستاذ حماد السالمي رئيس نادي الطائف الأدبي الثقافي السابق.. والذي يشاركني على (اليمين) يوم الأحد من كل أسبوع.. بمقالاته الأكثر انتظاماً، ليفاجئنا مساء (دبي) عند خروجنا من بوابة الفندق.. بأجوائه الخريفية الجميلة غير المتوقعة - بالنسبة لي -، وبذلك الازدحام في الشوارع غير المتوقع أيضاً.. لأستفسر عن أسبابه؟ فيجيبني سائق العربة.. الأبيض اللون والباكستاني الجنسية - على غير المتوقع - قائلاً بلغة عربية (معقولة).. وليس بـ (العربيزي) كما أسماها الصديق الدكتور عبدالله الوشمي: لأنه اليوم الوطني في الإمارات! ولذلك فالناس جميعاً يخرجون فيه إلى الشوارع والميادين.. للذهاب إلى الحدائق العامة والشواطئ ودور السينما والملاهي والمطاعم والمقاهي.. احتفالاً به وبإجازته، لتعيدني قولته إلى تلك الأيام السياسية الناصعة من منتصف ستينات القرن الماضي.. عندما كان العرب أمة مهابة، يحسب حسابها الصديق والعدو.. وإلى حد إرغام (الأسد البريطاني) على الانسحاب من اليمن الجنوبي - آنذاك - في الثلاثين من نوفمبر من عام 1968م.. وهو يعلن عن قراره بـ (الانسحاب) الكامل من كل مستعمراته أو محمياته في شرق السويس - كما أسماه الإعلان البريطاني آنذاك - مع مطلع عام 1970م وهو يقصد مستعمراته الخليجية أو محمياته - كما كان يسميها - التي لما تنل استقلالها بعد في الخليج، وهو ما كان.. رغم الانتكاسة التي تعرض لها العرب في يونيه حزيران من عام 1967م.
* * *
عندما وصلنا إلى استراحة (باب الشمس).. كانت مظاهر الاحتفال بـ (الذكرى الثالثة والأربعين) لاستقلال الإمارات.. أكثر وضوحاً، وأبهى مشهداً وأمتع مسمعاً.. وقد اصطف على مدخل الاستراحة المفروشة بـ (السجاد) العارضون الإماراتيون بملابسهم الوطنية، وهم يهزجون وينشدون أناشيدهم الوطنية.. وأصوات الدفوف من خلفهم، وقد توسط حاملوها وضاربوها المشهد كله.. بينما كان العارضون يتمايلون بصفيهم المتقابلين يمنة ويسرى.. ليمر وسطهم ضيوف (دوماً.. معاً)، وضيوف (باب الشمس) عموماً.. من الأوروبيين والأمريكيين والآسيويين وغيرهم من مختلف جنسيات العالم المتواجدون على الدوام في (دبي).
كانت الاستراحة - والتي لا أدري لِمَ سميت بـ (باب الشمس) - أكبر من استراحة للجلوس والطعام والشراب أو تدخين الشيشة و(الأرجيلات).. فقد كانت أكبر وأجمل وأفضل من استراحة!! كانت نادياً ليلياً رفيع المستوى.. يقدم إلى جانب وجبات العشاء لرواده برنامجاً موسيقياً غنائياً فلكلورياً حاشداً، استخفيت به بداية.. لكن متابعتي له - والتي فرضها وقت تناول العشاء.. وسط تراحيب واهتمام وعناية ثلاثي قيادة برنامج (دوماً.. معاً) الأساتذة (المطلق والعتيق والمالك)، وتلك الأحاديث الأدبية والتاريخية والسياحية الماتعة التي أطلقها وجود كوكبة من أصحاب الرأي والفكر والقلم.. ممن سبقوني إلى المائدة ذاته من أمثال الدكتور عبدالله دحلان والأستاذ حمد القاضي والدكتور إبراهيم التركي والدكتور شهاب جمجوم والأستاذ يوسف المحيميد والأستاذ قينان الغامدي والأستاذ ثامر الميمان والأستاذ أحمد العرفج - جعلتني أعيد حساباتي - كما يقولون -، فقد كان (مستوى) البرنامج، وأداء الموسيقيين والمغنين والراقصين.. أعلى مما كنت أظن وأتوقع.. كان وكأنه يقدم في إحدى عواصم الفن والموسيقى والغناء الكبرى كـ (القاهرة) و(بيروت) و(تونس).. لأحييِّ مقدميه التحية التي يستحقونها.. فقد كانوا بحق من الدرجة الأولى: عزفاً وغناءً ورقصاً.
عندما انتصف الليل.. كنا نستعد لمغادرة (باب الشمس).. التي يصح أن تسمى عن أحقية وجدارة بـ(ليالي دبي)..! حتى نستعد لليوم الثالث والأخير.. وهو بحق يوم المفاجآت السعيدة لقراء (الجزيرة) حتماً!!
* * *
فبعد ضحوية مختصرة قادنا إلى مكانها - في (شرفة) تطل على البحر وموجه الصباحي الهادئ وهو يتكسر على الشاطئ - الصحفي الشاب وطبيب المستقبل (عبدالله أبا الجيش).. شاركنا فيها الأستاذ المحيميد فرحته بـ (خبر) ترجمة روايته الجميلة (الحمام لا يطير في بريدة).. إلى الإنجليزية، كنا نستعجل خطانا للحاق بأول ورش عمل ذلك اليوم الأخير من أيام (دوماً.. معاً) وقد كانت عن (مطبعة الجزيرة) الجديدة.. التي ستطبع عليها أعدادها بدءاً من العام الميلادي القادم - 2015م - في اثنتين وخمسين صفحة بالألوان.. وهو أمر لا جديد فيه طباعياً، ولكن الجديد والمثير.. الذي أدهشني حقاً وإلى حد عدم تصديقه، هو أن تلك الصفحات الملونة، ستكون بـ (الرائحة) أيضاً خاصة في الإعلانات عن المواد الغذائية.. فـ (البرتقال) سيظهر فيها برائحته، و(الفانيليا) برائحتها، و(القهوة) برائحتها و(العود) برائحته.. وهكذا، وهو أفق طباعي جديد.. لم يكن يخطر على البال؟!
ليشهد مساء ذلك اليوم عرضاً سينمائياً لتلك المطبعة الجديدة.. وجولة بين مواقع الجزيرة ومطبوعاتها الورقية والإليكترونية على شبكة الإنترنيت، ليضم الجميع في النهاية حفل عشاء باريسي.. كأن طعامه جاء من مطعم (مكسيم) الفرنسي الشهير في شارع (الشانزليزيه).. زانه حضور (فنان العرب) الكبير محمد عبده، الذي حطم حضوره بروتوكول الوجاهات والأسماء.. وأعاد ترتيب الصفوف ليتصدرها فناننا المحبوب (محمد عبده)، والكل) يريد أن يتصور معه.. وبعضهم يريد أن يتحدث إليه.. وبعضهم يسعى إلى كلمة منه ليسجلها على مسجل إليكتروني يحمله؟! ما أعظم (الفن).. وما أجمل (الفنان) عندما يكون في تواضع وبساطة وحميمية فناننا الجميل (فنان العرب) محمد عبده..؟!
* * *
عندما عدت إلى (جدة).. كان أحد مدعوي (دوماً.. معاً) الذي فاته حضوره نظراً لتعارض موعده مع ارتباط أدبي آخر كان يتوجب عليه حضوره.. يسألني: هل يمكن تثبيت موعد هذا البرنامج الجميل الذي تقيمه الجزيرة كل عام (دوماً.. معاً)..؟
قلت واثقاً: أكيد.. إذا اتفق (ثلاثي) قيادييه (المطلق والعتيق والمالك).. على موعد محدد.. ليكون جزءاً من أجندة كل عام..!