إنَّ صلاح القلوب شأن عظيم وغاية سامية. ولا تصلح الأحوال ولا تستقيم الأمور إلا بصلاح القلوب، لقوله صلى الله عليه وسلم: «ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» أخرجه البخاري (52).
وأعمال القلوب كثيرة ومتعددة، من أهمها وأعظمها التوكل على الله تعالى؛ فهو منزلة من منازل الدين، ومقام من مقامات الموقنين، وحقيقته: اعتماد القلب على الله في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة، مع الأخذ بالأسباب المشروعة، وتفويض الأمر إلى الله، والاستعانة به في جميع الأمور، والاعتقاد بأن قضاءه نافذٌ وماضٍ. وهو أجمع أنواع العبادة، وأعلى مقامات التوحيد.
وبالتوكل على الله يتحقق للعبد الرضا التام واليقين الثابت، وطمأنينة القلب، وسعادة النفس.. وقد جاء الأمر به مؤكَّداً في كتاب الله في أوجه مختلفة، وسياقات متعددة، وجعله الله شرطاً لصحة الإسلام، وقوة الإيمان، وأخبر الله تعالى عن موسى في نصح بني إسرائيل بقوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمنتُم بِاللّه فَعَلَيْه تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ}، وهذا على جهة إقامة الحجة عليهم، وتنبيه للأنفس إلى فضل عبادة التوكل على الله، كما تقول: «إن كنت رجلاً فقاتل»، تخاطب بذلك رجلاً تريد إقامة نفسه. وختم الآية بشرط الإسلام فيه زيادة معنى.
وحياة المرسلين مع أقوامهم مَثلٌ للتوكل على الله، وأخبر الله عنهم بقوله: {وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا...}. وهكذا كان الصالحون من عباد الله. فالتوكل على الله عبادة قلبية عظيمة، ضعف جانبها عند كثير من الناس؛ فلم يستحضروها في حياتهم، وهي من صميم عقيدتهم، وحاجتهم إلى استحضار هذه العبادة مهمة جداً، وخصوصاً في طلب الرزق الذي شغل عقول الناس وقلوبهم، وأورث كثيراً منهم تعبَ البدن، وهمَّ النفس، وأرق الليل، وعناء النهار، وربما قَبل أحدهم أن يُذل نفسه ويبذل كرامته من أجل لقمة العيش التي يحسب أنها في يد مخلوق مثله، إن شاء أعطاه وإن شاء منعه! وقد يصل به الأمر إلى تعاطي الكسب الحرام؛ لأنه ترك الأخذ بالسبب في طلب الرزق.
وهناك مَوْطن آخر من مَوَاطن العمل، هو مَوْطن الصبر والثبات، وترك الركون إلى الأقاويل الباطلة والشائعات المغرضة، التي تبث في قلوب الناس الخوف والرعب من الواقع الذي يعيشونه، وما فيه من فتن وصراع واعتداء، فيعتريهم الخوف والقلق، ويلاحقهم الهمّ والجزع.. وكان عليهم أن يثبتوا ويثقوا بربهم، ويلجؤوا إليه، ويعلموا ألا ملجأ من الله إلا إليه، ويتوكلوا عليه، ويعلموا أن كل ما يقع في هذا الكون بقدر معلوم من الله تعالى.
التوكل على الله والثقة بوعده هما اللذان يُثبّتان أهل الإسلام أمام مشكلات حاضرهم، ويعيناهم على مواجهة الأخطار والتحديات الموجهة لهم.
هذا هو التوكل على الله في حقيقته وأثره وجزائه وصفات أهله، لكنه ما كان تواكلاً ولا اتكالاً، وما كان ضياعاً ولا إهمالاً للسنن والأسباب، إنه اعتماد على الله، وسعي في الأرض، وأخذ بالأسباب.