أسعار النفط لم ولن تكون ثابتة في اتجاهاتها، كحال أي سلعة؛ ولذلك فإن تراجعها يُعدُّ أمراً طبيعياً، كما هو ارتفاعها. وكل ذلك تحكمه ظروف اقتصادية بشكل أساسي، مع أسباب أخرى، سواء سياسية أو ظروفاً مناخية أو عوامل الطبيعة عموماً، لكن أثره على اقتصادنا يبقى بإيرادات الخزانة العامة، التي من الممكن أن تتقلص بنسبتها في حال تنوع الإيرادات بطرق عديدة متبعة عالمياً، كالرسوم والضرائب وخفض دعم السلع والخدمات، أو من خلال توجيه الاستثمارات الحكومية لأصول ذات عائد جيد.. ولكن كل ذلك يبقى جزءاً من آلية عمل الجهات الاقتصادية على تعزيز متانة الملاءة المالية للدولة، بهدف دعم التنمية المستدامة، ورفع كفاءة الاقتصاد، وتنويع نشاطه، وتعزيز تنافسيته عالمياً.
وبما أن التنمية تتطلب خططاً تنموية شاملة، تكون بمنزلة خارطة طريق، تحقق أهدافاً عامة، وتنعكس بصفة خاصة على الفرد، من خلال رفع مستوى الخدمات التي ينتفع بها، وكذلك تنمية الموارد البشرية، ورفع مستوى دخله، وتوفير احتياجاته الرئيسية، من سكن وصحة وتعليم وفرص عمل، فإن الإنفاق الحكومي على مشاريع البنى التحتية والمرافق العامة يُعدّ العمود الفقري الذي يحقق كل تلك الأهداف والطموحات والخطط بصفة عامة. وفي حال توافر كل ما تحتاج إليه خطط التنمية من أموال لتنفيذ تلك المشاريع التي يفترض أنها تصمم لتكفي سنوات طويلة، وتستوعب أي زيادة بالطلب على الخدمات لعشرات السنين، فإن أي تقصير بتنفيذ المشاريع يؤدي حتمياً إلى فجوة لصالح تنامي الطلب على حساب العرض أو وفرة الخدمات. ومن هنا يمكن القول إن تعثر المشاريع يلمسه المواطن أكثر من أثر تراجع سعر النفط في حالة اقتصادنا؛ لأن ارتفاع سعر النفط استمر لسنوات فوق 100 دولار للبرميل، وساهم بتحقيق فوائض ضخمة، تشكلت منها الاحتياطيات الحالية للدولة، التي وصلت إلى 2.8 تريليون ريال، بخلاف ما تم تخصيصه للإنفاق على المشاريع منذ سنوات، الذي فاق تريليوني ريال، ومع ذلك فإن حجم المشاريع المتعثرة وصل لأرقام ضخمة، تشير بعض المعلومات والدراسات إلى أنها تفوق 30 في المئة من مجمل المشاريع المعتمدة خلال السنوات الماضية، أي أن وفرة المال لم تكن كافية لإنجاز مشاريع خطط التنمية، وخصوصاً الثامنة والتاسعة اللتين تنتهيان مع رحيل عام 2014م.
فما ذكر ببيان وزارة المالية الأخير حول الميزانية العامة أعطى تصوراً يمكن البناء عليه لتقدير حجم المشاريع المتعثرة، سواء بتأخر تنفيذها، أو بعدم البدء بها رغم اعتمادها منذ سنوات، التي قدرت بنحو 681 مليار ريال. وعلى افترض أن هذا الرقم صحيح، أو هناك أرقام أعلى أو أقل بقليل، فإن تقدير ضرر المشاريع المتعثرة على الاقتصاد يبقى كبيراً جداً؛ فعدم الانتهاء من تنفيذ هذه المشاريع المقدر حجمها بمئات المليارات مجتمعة، في قطاعات الصحة والتعليم والنقل والتجهيزات الأساسية.. إلخ، يعني زيادة في الضغط على الخدمات، وضعفاً عاماً في تحسين جودتها، ويعني أيضاً فقدان الاقتصاد أكثر من 500 ألف فرصة عمل مباشرة للمواطنين، كان ممكناً أن تولدها عمليات بناء وتشغيل هذه المشاريع، بخلاف أثر ذلك على النمو الاقتصادي، فتحوُّل العاطلين لمنتجين ينشط الاقتصاد في الإنفاق الاستهلاكي والطلب على السكن، وتدفق الاستثمارات له ولقطاعات الصناعة والتجزئة، وكذلك الأمان الاجتماعي لهؤلاء العاطلين وأسرهم.. وكلما ارتفع التعثر بالمشاريع زادت الخسائر الاقتصادية أكثر؛ وبالتالي كان الضرر أوسع عند المقارنة بتراجع سعر النفط؛ لأن عائداته لن تذهب للمواطن مباشرة، بل ستصله عبر المشاريع المنفذة لخدمته وتوظيفه ورفع مستوى معيشته، بوصفها أهدافاً عامة معلنة، تطمح كل خطط التنمية لتحقيقها.
ولذلك فإن تنفيذ المشاريع المتعثرة، ومنع تعثر أي مشاريع قادمة، أكثر أهمية وفائدة للاقتصاد عموماً وللفرد خصوصاً في المرحلة الحالية من انتظار استقرار أسعار النفط التي ستصل لقيمتها العادلة يوماً ما، وهي مرتبطة بعوامل خارجية صافية، بينما الاقتصاد المحلي تؤثر فيه عوامل مختلفة، يمكن بنسبة كبيرة التحكم بها، والتغلب على أية عقبات تواجهه.
ويُعدّ دور وزارة الاقتصاد والتخطيط محورياً ورئيسياً في معالجة كل أسباب تعثر المشاريع، بوصفه إحدى المهام التي تُعدّ مسؤولة عنها؛ كونها الجهة التي تضع الخطط التنموية، ويفترض أن تبحث في كل ما يعيق تنفيذها، سواء بالتمويل أو الأنظمة والتشريعات المطلوبة، وحتى تحديد الاحتياج لأجهزة حكومية جديدة، تخدم تنفيذ الخطط المرسومة للبناء الاقتصادي والاجتماعي على حد سواء.
إن التخطيط للمستقبل يُعدّ ركيزة أساسية لتقدُّم الدول. وبما أن لدينا جهازاً متخصصاً في التخطيط فإن دوره يبقى كبيراً لتنفيذ ما أعتبره احتياجاً وضرورة لتقدمنا الاقتصادي، وأي خلل ظهر بتنفيذ الخطط التنموية إلى الآن يُعدّ هو المسؤول الأول عنه؛ ما يعني أهمية قيام جهاز التخطيط الممثل بوزارته الحالية بتغيير جذري كامل في أسلوب التخطيط، ومعالجة كل العوائق التي تقف في وجه النهوض بالاقتصاد المحلي بعد تحديدها. فالأعمال تقاس بالنتائج، والأخيرة تحقق أعلى الدرجات فيها بالكفاءة الإدارية والتنظيمية والتكامل في الأداء بين مختلف الجهات المعنية بتنفيذ الخطط، بما فيها القطاع الخاص.