أُعلنت يوم الخميس الماضي الميزانية العامة للدولة، التي سجلت رقماً قياسياً جديداً بارتفاع تقديرات الإنفاق للعام المالي الجديد عند 860 مليار ريال. ومن الواضح أن الاتجاه العام للاقتصاد المحلي هو تحقيق معدلات نمو أعلى من الاقتصاد العالمي، من خلال دعم خطط التنمية، وكذلك التغلب على السلبيات التي يعيشها الاقتصاد العالمي، وتقليص أثرها على اقتصاد المملكة، وذلك من خلال اتباع منهج الدورات الاقتصادية العكسية.
أي رفع الإنفاق في فترات ضعف الاقتصاد العالمي، وتخفيضه في أوقات قوته، من خلال رفع الاحتياطيات من الفوائض، وتقليص الإنفاق؛ ليتم الاستفادة من تلك الفوائض في الظروف السلبية للاقتصاد العالمي؛ ما يوجد نمواً مستداماً بحسب ما يمكن تفسيره من اتباع نهج الدورات الاقتصادية العكسية، الذي ذُكر بتصريحات وزراء المالية والاقتصاد والتخطيط.
فالنمو الاقتصادي الذي تحقق بالعام المالي الماضي بلغ 1 في المئة بالأسعار الجارية؛ والسبب يعود لتراجع أسعار النفط في الأشهر الثلاثة الأخيرة تحديداً؛ فقد بلغ الناتج المحلي الإجمالي 2.821 تريليون ريال، بينما العام السابق كان عند 2.794 مليار ريال، لكن النمو بالأسعار الثابتة لعام 2010، فقد بلغ 3.6 في المئة، ويلاحظ أن هذا العام لم توضح نسبة تأثير البترول والقطاعين العام والخاص بالناتج المحلي كما جرت العادة في بيانات الميزانية التي تصدرها وزارة المالية سنوياً. كما يتضح من البيان حجم المشاريع التي اعتمدت خلال الأعوام الماضية ولم ينتهِ تنفيذها، والتي يبلغ حجمها 661 مليار ريال، وكلها من المشاريع المعتمدة بالخطة التنموية التاسعة التي تنتهي بعد أيام قليلة، وتركزت تلك المشاريع بقطاعات التعليم بحجم 280 مليار ريال وقطاع البلديات 144 مليار ريال وقطاع التجهيزات الأساسية والنقل 115 مليار ريال وقطاع الموارد الاقتصادية 142 مليار ريال، والأخير يقصد به المياه والصرف الصحي والصوامع والمدن الصناعية.. إلخ. ويمكن من خلال هذه الأرقام الضخمة التوصل لحجم المشاريع المتعثرة، سواء بتأخر تنفيذها أو بعدم البدء بها، ولأي سبب كان من أسباب التعثر المعروفة.
وتمثل هذه الأرقام نحو 46 في المئة من حجم الإنفاق المقدر على مشاريع الخطة الخمسية التاسعة، التي قدر حجم الإنفاق على المشاريع فيها عند 1440 مليار ريال؛ ما يؤكد الحاجة لتفصيل أوضح من قِبل وزارة الاقتصاد والتخطيط حول حقيقة حجم المشاريع المتعثرة بالخطة التاسعة، وأسباب تعثر كل مشروع، وكذلك المشاريع التي تسير وفق مدتها الزمنية المعتمدة من بين المشاريع التي ذكرت ببيان المالية أنه جارٍ تنفيذها، التي بلغ حجمها كما ذكرت عند 661 مليار ريال، إضافة إلى تقييم الأثر السلبي لنسب التعثر على الناتج المحلي، ليس بأرقام عامة فقط، بل حتى بالوظائف التي فقدت أو تأخر طرحها بسبب تأخر التنفيذ والآثار على القطاعَيْن العام والخاص.
أما فيما يتعلق بأثر الميزانية على الاقتصاد فمن الواضح أنها تستهدف تحقيق معدل نمو جيد، قدر بحسب تقارير دولية عند 4 في المئة. فما تم اعتماده من مشاريع العام المالي الماضي بلغ 184 مليار ريال، وما اعتمد للعام المالي الجديد 185 مليار ريال، أي بمجموع 369 ملياراً، وهي أرقام ضخمة كفيلة باستمرار تحريك عجلة الاقتصاد بوتيرة عالية. ويفترض أن توفر هذه المبالغ فرص عمل ضخمة تتعدى 300 ألف بشكل مباشر، وما يفوق مليون فرصة عمل بشكل غير مباشر. وهذه الأرقام تبقى نظرية؛ لأن الواقع يقول إن من سينفذ هذه المشاريع هي منشآت قائمة، ولديها موظفون، أي أن جُل الوظائف المتولدة من هذا الإنفاق هي تصنف كاستمرارية لما هو قائم، وقد يكون الجديد بفرص العمل أقل بكثير، ولكن الفرص الجديدة الحقيقية ستكون عند استلام تلك المشاريع وتشغيلها؛ ما يتطلب رفع كفاءة تنفيذ المشاريع والانتهاء منها في الوقت المحدد لها؛ حتى لا تزيد نسب البطالة. فما يتضح من مجمل الأرقام التي ذكرت حول المشاريع الجاري تنفيذها منذ سنوات أنها سبب رئيسي في عدم قدرة خطة التنمية التاسعة على تحقيق أهم أهدافها، وهو خفض البطالة من 9.6 في المئة ببدايتها عام 2010 إلى 5.5 في المئة بنهايتها العام الحالي 2014، إلا أن البطالة حالياً تبلغ نسبتها نحو 11.5 في المئة، أي أنها ارتفعت بنحو 20 في المئة عن بداية الخطة التاسعة.
وبذلك يتضح أن تحقيق معدلات نمو بالاقتصاد تحقق برقمه القريب من المستهدف، لكن الآثار المباشرة على المواطن لم تصل إلى المستوى المتوقع من حيث توفير فرص العمل كما خطط له أو إنهاء مشاريع خدمية واستثمارية بنسب عالية؛ ما شكَّل ضغطاً مستمراً على القائم منها، وخصوصاً بمجالات الصحة والتعليم العام والبلديات والمدن الصناعية والنقل، الذي يوضحه أكثر أرقام المبالغ الضخمة المعتمدة لمشاريعها والتي ما زالت تحت التنفيذ. ويمكن القول إنه لو تم تنفيذها كما يجب لتضاعف حجم النمو الاقتصادي بخمسين في المئة عن الأرقام المعلنة، ولتجاوز الناتج المحلي الإجمالي ثلاثة تريليونات ريال بسهولة.
ومن هنا تتضح الحاجة لرفع كفاءة الأجهزة التنفيذية، وأن توسع وزارة الاقتصاد والتخطيط من دورها بمتابعة تنفيذ خطط التنمية، وتعالج الإشكاليات التي تواجه تحقيق أهدافها.
أما من ناحية التأثير على السوق المالي فإن استمرار زخم الإنفاق سيؤثر إيجابا بنمو ربحية غالبية قطاعات السوق، وعلى رأسها البنوك والمصارف نظراً لتوقع زيادة نمو السيولة بالاقتصاد، واستمرار نمو الإقراض لقطاع الأعمال والأفراد كما في السنوات السابقة، وكذلك استمرار نمو الطلب على مواد البناء، ومن بينها الأسمنت. وأيضا ستستفيد العديد من الشركات الصناعية وكذلك شركات التشييد والبناء. ومع مخصص رواتب وبدلات يقارب 50 في المئة من تقديرات الإنفاق بالميزانية، أي بحدود 430 مليار ريال، فإن قطاعات التجزئة والأغذية ستبقي على معدلات نمو جيدة، إضافة لقطاعات الاتصالات والتأمين التي تستفيد من استمرار الزخم بالاقتصاد، وستصل الآثار الإيجابية لبقية القطاعات بنسب متفاوتة، وحسب حصة وقوة كل شركة؛ ما يعني بالمحصلة أن نمو ربحية قطاعات السوق ستبقى قوية، وقد تتعدى 8 في المئة باستثناء قطاع البتروكيماويات الذي يرتبط بالاقتصاد العالمي، وله طرق مختلفة بحسابات ربحيته، تختلف من شركة لأخرى بحسب منتجاتها، إلا أن قياس وضعه يبقى مرهوناً بتطورات الاقتصاد العالمي، وهل سيخرج من أزمة تباطؤ النمو القائم به حالياً، وكم المدة لتحقيق ذلك.
خلف أرقام الميزانية يمكن قراءة العديد من الإيجابيات الرئيسية، وأهمها استمرار تحقيق معدلات نمو اقتصادي جيد، ووضع مالي قوي؛ يسمح بتغطية أي عجز بالموازنة من خلال خيارات عديدة، من بينها طرح أدوات دين محلية بتكاليف منخفضة، بسبب تراجع الدين العام إلى 44 ملياراً، وبنسبة تصل إلى 1.6 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، كأقل نسبة دين سيادي عالمياً، وكذلك احتياطي مالي ضخم، وتصنيف ائتماني قوي، إضافة للسحب من الاحتياطيات كخيار متاح، ولن يشكل عبئاً على المدى القصير أو المتوسط، إلا أن الأهم من التفكير بطرق سداد العجز أو الاهتمام بمعدل النمو العام هو تنفيذ مشاريع خطط التنمية الرئيسية، وما يعتمد بالميزانيات السنوية لتحقيق الهدف الرئيسي من التنمية البشرية بتحسين الصحة والتعليم وتوفير فرص العمل الجيدة. يضاف لذلك أن تقوم الوزارات الأخرى المعنية بجذب الاستثمارات، وتوفير فرص العمل، ورفع الطاقة الاستيعابية بالاقتصاد بدورها المطلوب؛ حتى تتسارع خطوات تنويع الاقتصاد، وتقليص الاعتماد على النفط بالسنوات الخمس القادمة بأسلوب مغاير لما أُنجز سابقاً؛ لأن تنافسية الاقتصاد المحلي وكفاءته تبقى هي التحدي الكبير لاستدامة التنمية ورفع مستوى دخل المواطن وتوفير احتياجاته، كالسكن وبقية الخدمات الأساسية.