التراجعات الكبيرة التي طالت السوق المالي المحلي خصمت قرابة 4000 نقطة من مؤشر السوق، حيث تراجع من مستويات 11149 نقطة الى 7330 نقطة في مدة ثلاثة أشهر، ولم يتخلص السوق الى الان من تكرار هذه التصحيحات الحادة رغم حجم الاصلاح والتطوير الذي مر به منذ تأسيس هيئة السوق المالية قبل أكثر من عشرة أعوام
وهنا لابد من البحث عن الاسباب التي تقف وراء تكرار هذا المشهد المقيت للتراجعات القاسية والمؤلمة ليس بهدف منعها، لأن ذلك مستحيل فهو يحدث بأكبر الاسواق العالمية ولكن لهدف آخر وهو تقليل حدوثها وأيضاً زيادة مدة التباعد بينها.
وتناولت في الاسبوع الماضي بمقالين متتاليين بعض الجوانب التي تعد مؤثرة سلبا بغيابها عن السوق وهي غياب التصريحات والتقارير التي توضح حقائق مهمة للمستثمرين حول حالة الاقتصاد والتي يفترض ان تتم بشكل دوري وتغطي فراغ المعلومات المطلوب ان يكون تعبئته داخليا بدلا من تسيد المصادر الخارجية او الاجتهادات الخاصة له مما يؤثر على نفسية المستثمر وقراره بطرق عشوائية لا تخدمه ولا تخدم السوق والاقتصاد عموماً، وكذلك غياب التطوير عن ادوات التداول وخصوصا اقرار نظام صانع السوق.
وقبل نهاية الاسبوع الماضي عاد السوق للارتفاع الصاروخي كردة فعل على تصريح معالي وزير المالية الذي اوضح فيه ما كان يحتاجه المستثمر من معلومات حول توجهات الاقتصاد المحلي القادمة والتي كانت اعادة تأكيد بأن الانفاق الحكومي سيبقى قويا وملائما لتحقيق معدلات نمو جيدة وان تراجع اسعار النفط لن يؤثر على خطط التنمية والكثير من الاستنتاجات الايجابية التي يمكن تفسيرها من مضمون التصريح، واعقبه تصريح لمعالي وزير البترول اكد فيه على ان ما تقوم به المملكة سيكون في صالح السوق النفطية عالميا بما يعني العودة لاسعار عادلة واعلى مما هي عليه الان، وان تراجع اسعار النفط سببه اقتصادي وليس للسياسة اي علاقة به نهائيا كما حاولت بعض الدول المصدرة للنفط او حتى جهات استشارية او اعلامية عالمية الترويج له.
واوضح ايضا متانة الاقتصاد المحلي مما يشير الى قدرة المملكة على تحمل تراجعات الاسعار لفترة قادمة وان العودة لاسعار أعلى هو ما يتوقع حدوثه وبفترة لن تطول كثيرا.
لكن لمعالجة اسباب اخرى مؤثرة بالسوق لابد من النظر الى سبب التراجعات الاساسي والذي يمكن لمسه بسهولة من خلال بعض التوصيفات التي تطلق على اسواق المال، ولعل اهمها ان «السوق مرآة للاقتصاد» فمن هذا التوصيف يمكن فهم احد اهم اسباب التقلبات الحادة بالسوق خصوصا عند التراجعات او التصحيحات التي يمر فيها وبفترات لا تعد طويلة زمنيا بينها، فما برز من سبب رئيسي لحدة التراجع الحالي هو توقعات تراجع ايرادات الخزينة العامة والتي تعتمد بنسبة تفوق 90 بالمئة على ايرادات النفط وبالتأكيد سيتوقع المستثمرون ان هناك امكانية اكبر لتراجع الانفاق الحكومي مستقبلاً، والذي يعد المحرك الرئيسي للاقتصاد المحلي، اي ان تراجع ارباح العديد من قطاعات السوق المالي سيصبح وارداً بنسبة كبيرة ما لم تتبدد هذه التوقعات باعتماد انفاق حكومي عال بالموازنة القادمة مع بقاء التخوف من حجم العجز المتوقع وكيفية تغطيته في ظل غياب تصور واضح لمستقبل اسعار النفط، اي هل سيستمر لسنوات ام لفترة قصيرة يمكن تجاوزها بسهولة؟.
هذه الصورة التي تشكلت في ذهنية المستثمرين بالسوق المالي توضح بشكل جلي اهمية تنويع ايرادات الخزينة العامة وكذلك تنويع الاقتصاد واعتماده على نشاط لا يؤثر فيه الانفاق الحكومي بنسبة كبيرة، فلو تحققت هاتان النقطتان فإن حسابات المستثمرين ستتغير تلقائيا لان هذه العوامل المؤثرة حاليا بنشاط الاقتصاد ونتائج كافة القطاعات فيه وبالتالي الشركات المدرجة بالسوق ستنخفض نسب تأثيرها؛ كون الحراك الاقتصادي المحلي سيكون مرتبطا بنشاط الاقتصاد الحر اكثر من ارتباطه بالموازنات العامة والايرادات والانفاق الحكومي التي تعد قائد النشاط الاقتصادي، ومن هنا تأتي اهمية الاسراع بتنفيذ احد اهم اهداف خطط التنمية وهو التنوع الاقتصادي وتعدد مصادر الموارد بالاقتصاد المحلي، فإذا كان الناتج المحلي للعام الماضي وصل الى ما يقارب 2.8 تريليون ريال، وكانت نسبة مساهمة القطاع الخاص حوالي 58 بالمئة وهي نسبة جيدة بعد ان كانت اقل من ذلك بكثير، لكن جل هذه النسبة يعود بالدرجة الاولى الى ان الانفاق الحكومي كبير، وهو من حرك القطاع الخاص، سواء بشكل مباشر عبر مشاريع البنى التحتية والمرافق والتي تدعم قطاعات البنوك والمقاولات وغيرها، وكذلك قطاعات تستفيد بشكل غير مباشر كالتجزئة والعقار بسبب استقدام العمالة الكبير وماتحتاجه من خدمات بخلاف النمو الطبيعي لطلب المواطنين على السلع والخدمات، فخلال آخر عشر سنوات نما عدد الوافدين بنسبة 50 بالمئة بينما المواطنون بنسبة 25 بالمئة وفق الاحصاءات الرسمية.
إن الاسراع بمعالجة تنويع مصادر الايرادات وتقليل نسبة الآتي من النفط فيها وكذلك توسيع الطاقة الاستيعابية بالاقتصاد والذي وضع كأحد ابرز اهداف خطة التنمية العاشرة القادمة بات امرا ملحا اكثر من اي وقت مضى فالتغيرات الحالية بالاقتصاد العالمي ومستقبل اسواق النفط الذي دخل عصرا جديدا يحتم تقليص النمط السائد في دور النفط في اقتصادنا ليكون ميزة اكثر قوة من الوضع الحالي بالاعتماد عليه بنسب كبيرة بالايرادات او التاثير بالنشاط الاقتصادي فعندما يتقلص تاثيره محليا وتتعدد مغذيات الحراك الاقتصادي سنجد ان الشركات والقطاعات الموجودة بالسوق اكثر قوة بمصادر ايراداتها ونشاطها ولن يكون لاي تقلبات باسعار النفط ذلك الدور المؤثر على السوق المالي بهذه النسبة الكبيرة حاليا.