يتساءل كثيرون ومنهم أجانب وغير مسلمين عن أسباب انتشار الإسلام في أصقاع الأرض باتجاهاتها الأربع؟ وعن اعتناق الشعوب باختلاف أعراقها ملة محمد الذي لا يمت لهم بصلة دم ولا لسان؟ ولعل الجواب يكمن ليس في سماحة الشريعة فحسب بل وفي عدل المسلمين حكاماً وقضاة في الشعوب التي
حكموها. فالإسلام انتشر فيما سبق بدون دعاة، وكان الجميع يبحث عنه ولا يبحث عنهم. وكان المسلمون حريصين على الحفاظ على صحيفة الإسلام نقية صافية لا يلطخها ظلم ولا يلوثها عنف.
وكنت أتجاذب أطراف الحديث مع صديق عزيز، وخبير دولي سعودي في القانون الجنائي، طلب عدم ذكر اسمه، حول الأمور المعتادة من أمور الأمة، فأطلعني -حفظه الله- على حكم صدر من أحد المحاكم السعودية رد فيه القاضي دعوى من مدعي الأمن العام ضد مواطن ضبطوه بسبب خلل في إجراءات الضبط رأى القاضي أنها لا تتوافق مع الإجراءات الشرعية المتسامحة التي تحفظ للإنسان كرامته وتؤصّل له براءته. واتفقنا أن في هذا الحكم صورة مشرفة للعدل في القضاء السعودي أحببنا أن تحظي بحقها من الإعلام لأن ما يكتب عادة عن القضاء السعودي هي الأمور السلبية فقط، ولأن البعض منا يساوي في إعلامه بين النقد والأمور السلبية ويقصره عليها فقط. ولكن الإشادة بالإجادة هي للمنصفين أساس من أسس النقد.
وكما هو معلوم فالعدالة ليست معطاة ولا واضحة دائماً وهي لذلك ليس مطلقة أو كاملة، والقضاة هم من يدل على العدالة في التشريع وينصفون المتقاضين بها ومنها، وهم المؤتمنون الأِول عليها. إذا صلحوا صلحت وإذا حادوا عن أصولها حادت عن مبتغاها. ولذا فلا غرو أنه من عُرِف القضاء، وهذا أمر كوني لا خصوصية فيه لأمة دون غيرها، اشتُرِط في القضاة، إضافة لعلمهم العميق بالتشريع: الفطنة، والنزاهة، والاستقامة، والبعد عن التحيز في أي أمر ولأي سبب، والقدرة على النأي بالنفس عنه مهما كانت المغريات أو العواقب. وكي لا أطيل على القارئ الكريم في التقدمة فأتركه للنص ليحكم عليه بنفسه، فالقارئ الكريم هو خير من يُحكّم في أمر يخص مجتمعه، والمواطن هو الحكم النهائي في نزاهة قضائه.
«الحمد لله وحده وبعد، فلدي أنا... قاضي المحكمة العامة في... افتتحت الجلسة وفيها حضر المدعي العام مدعياً على المواطن/... يحمل السجل المدني.... قائلاً: إنه بتاريخ 10-2-1428هـ قبض على هذا الحاضر من قبل شرطة... بعد الاشتباه به وهو يقود سيارة من نوع... وقد جرى تحليل عينات من دمه فأثبت التقرير الكيمائي الشرعي... أن العينات تحتوي على مادة الإمفيتامين المحظور أطلب إثبات ذلك والحكم عليه وفق المادة 14 من نظام مكافحة المخدرات ومنعه من السفر وفق المادة 56 من ذات النظام وإثبات إدانته بقيادة سيارة تحت تأثير الحبوب المحظورة وإفهامه بأن عقابه على ذلك عائد للجهة المختصة وفق المادة 176 من نظام المرور هكذا أدعى. وبسؤال المدعى عليه أجاب قائلاً: ما ذكره المدعي العام القبض علي بالتاريخ المذكور وأنه جرى أخذ عينات من دمي تحتوي على الإمفيتامين وأنني كنت أقود السيارة قبيل القبض فذلك صحيح ولكنني قد تبت وتركت الاستعمال قبل القبض علي وإن أفراد الشرطة فتشوني شخصيا كما فتشوا السيارة فلم يعثروا على ممنوعات وأنا الآن مستعد بالتحليل لإثبات صدق توبتي هكذا أجاب. فبناء على ما تقدم من الدعوى والجواب ولما قرره المدعي عليه من توبته قبل القبض عليه ولأن القبض عليه لم يستند إلى دليل محسوس يشير إلى استعماله شيئا من المحرمات كما يظهر من أوراق المعاملة وخاصة ما ورد في اللفة الرابعة منها وبذلك فلا أثر يترتب على ما ورد في التقرير الكيميائي الشرعي ولأن للأشخاص حرمة تحمي أجسادهم وملابسهم وأموالهم كما في المادة 40 من نظام الإجراءات الجزائية وأخذ العينات ينافي ذلك وقال النووي -رحمه الله- في شرحه على صحيح مسلم 2-26» وقال أقضى القضاة الماوردي «ليس للمحتسب أن يبحث عما لم يظهر من المحرمات... إلا أن يكون في انتهاك حرمة يفوت استدراكها» وما جاء في هذه القضية ليس كذلك ولأن كل إجراء مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية أو الأنظمة المستمدة منها يكون باطلا كما ورد في المادة 188 من نظام الإجراءات الجزائية ولأنه لا يجوز القبض على أي إنسان أو توقيقه إلا بأمر من السلطة المختصة وتجب معاملته بما يحفظ كرامته كما نصت عليه المادة 35 من ذلك النظام وقد أخرج أبو داود في سننه قال: «أتى ابن مسعود فقيل: هذا فلان تقطر لحيته خمراً! فقال عبدالله إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به» وصححه الألباني. وفي الحديث الذي ذكره قبله وصححه «عن ماوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنك إن اتبعت عوارات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم» ومن القاعدة المشهورة: ما بني على فاسد فهو فاسد» لذلك كله فقد رددت دعوى المدعي العام وأخليت سبيل المدعي عليه منها وبرأته وبذلك حكمت في 28-11-1430هـ، تمت المصادقة على الحكم».
هذا هو الحكم كما صدر، أورده الكاتب كما هو، وهو بالطبع لا يعرف القاضي أو المحكمة، ولكنه يرى في الحكم إنصافا لكرامة المواطن وتأصيلا لقرينة براءته. وقد وضع الكاتب خطاً تحت بعض السطور التي فيها تشريعات هامة لأصول الاحتساب أو التوقيف، فالمنكر لا يعالج بمنكر، والشرع لا يسمح بالتجسس على المسلمين ففي ذلك تجاوز على حقوقهم الخاصة حتى ولو كان ذلك لمنفعة عامة، والشرع لا يبيح لمحتسب أن يفتش عن المنكرات، مثلاً، ولا أن يتقصص عورات الناس. وهنا يكمن الفرق بين المحتسب الجاهل والمحتسب العالم. وفي هذا الحكم دروس مستفادة لمن ينشد أصول الاحتساب، فالمسلم قد يأثم فيما يعتقد أنه يؤجر به.