سؤالان طرحهما: استدعاه توصيف.. أقل ما يوصف به أيضاً: أنه مغرض.. وبعيد جداً عن الحقيقة.. أطلقه قلة من الباحثين بالتاريخ الإسلامي.. ومنهم للأسف عرب.. لعل من أبرزهم: المفكر المغربي الراحل الدكتور محمد عابد الجابري.
وصفت هذه القلة: الحضارة العربية الإسلامية بأنها تاريخية.. قامت على النقل دون العقل.. والاتكاء على الماضوية التي لم تفعلها بالاضافة والابداع.. فاختصر دورها.. وهذه حالها: على الوساطة.. ولم تزد على ما كان من الحضارات التي سبقتها.. بل بعض هذه القلة: ذهبوا بعيداً جداً في مزاعمهم في أن العرب لم يقوموا بأكثر من تكليف أقاربهم الساميين: ترجمة وتعريب علوم.. وآداب وفنون.. وصناعات: اليونان والرومان.. والفرس والهنود باعتبار أن الساميين تتابعت هجراتهم من الجزيرة العربية إلى مواطن هذه الأمم منذ أزمنة سحيقة.. فخالطوهم.. وأثروا وتأثروا بهم.. وبفعل طول الزمن: حصل اندماج.. فاتقنوا تبعاً لذلك: لغاتهم.. وعرفوا ثقافاتهم وعقائدهم.. وأنساق حياتهم.
إن هذا التوصيف رغم أنه لم يرق إلى تنظيمات وتكتلات: فكرية وعسكرية معادية للعرب كالتي ظهرت إبان العصور العباسية مثل: الخرمية.. والرواندية والشعوبية.. نفهم منه بأن الحضارة العربية الإسلامية لم يتعد دورها تركيم الماضويات.. ولم تضف وتبدع.. وتبلور وتصعد بما كان قد اندثر.
مع أن هذا التوصيف لم يرفعه مطلقوه إلى مستوى التكتل والمواجهة.. فقد غفلوا.. أو تغافلوا عما هو معلوم بالضرورة في أن اللاحق يأخذ من السابق.. والخلف من السلف.. وأن التعاون بين الأمم.. وتبادل الخبرات.. والاستفادة من الآخر المتقدم حتمية لا سبيل إلى تجنبها إن ايجاباً بالوعي والاستلهام.. أو سلباً بالتقليد الذليل للأقوى.. فتذوب الذات نتيجة لذلك.
سواء كان هذا التوصيف عن علم.. أو جهل.. أو عن حسن نية.. أو بدافع نقد الذات.. فإنه لم يكن بمحله.. ولا يخلو من المخاطر.. وإنه ما زال بمرحلة التشويه.. حتى وإن لم يقصد البعض ذلك.. فالمطلوب: الحيلولة دون شيوعه.. لأنه يخالف الحقيقة.. وقد يؤثر شيوعه على تفكير غير المتخصصين.
إضافة إلى أن الحضارة العربية الإسلامية تأسست على الإيمان.. فساد العدل.. وحفظ الأمن.. وروعيت المطالب.. وسمت القيم.. وتجددت الأفكار.. واستقام السلوك.. ونهضت الهمم: جمعت عقب التصفية والتنقية عصارات الحضارات السابقة التي فعلت بعد أن زيد عليها أضعاف ما أخذ مما سبق: فكراً وعلماً.. وابداعاً.. نوعياً.. وبراعة ومهارة.. فحفلت بأعظم الانجازات التي عمت العالم القديم.. وظلت حتى العصور الحديثة.. ملهمة لصناع النهضة الأوروبية.. ولرواد النهضة العربية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر.. ومطلع القرن العشرين الميلاديين.
بالإسلام اجتمعت كلمة العرب.. وصاروا به أمة.. ومعهم مستعربون.. ومسلمون صنعوا باللغة العربية: حضارة زهت بما أبدعته كماً وكيفاً.. وهضمته وأطرته.. وأحيته وحسنته.. وكونته من قدرات مقاومة للتحديات.. ومخصبة للانتاج.. والعطاء المعرفي.. وناهضة بالمواهب والكفاءات.. ونابذة للعنصرية.. وكان طموح صناعها بلا حدود.. يداومون على تجديد طاقتها.. وتقوية ذاتها بانفتاح.. وظلت قروناً لم تمكن الجمود.. والتقليد البليد منها.. وقد استقلت بصيغة مختلفة.. وطابع خاص.. وفاقت ما سبقها من الحضارات.. وانفردت دونها.. ودون اللاحقة بالروحانية.. والسياق الإنساني.
ومن خلالها برز أعلام بالشرع والفقه.. واقطاب بالعلم والفكر.. ونجوم بالأدب والفن.. وأبرع الأطباء.. ومهر الصناع والبناؤون الذين غيرت عبقريتهم وضع العالم إلى الأفضل.. فصاروا منارات اضاءت الدروب لما تلاهم.. فحسب هؤلاء علامات يستحيل محوها من الذاكرة والذكر مضيئة على صفحات التاريخ.. ووصفت الحضارة العربية الإسلامية بالإنسانية الكبرى.. والشمس التي أشرقت بسماء أوروبا.. فبعثرت ظلمات عصورها الوسطى.
بقرار عربي.. ولغة عربية.. وفكر وابداع.. وعزم كافة المسلمين من كل الأجناس. وآخرين يعيشون معهم من مختلف الطوائف: حفظت في هذه الحضارة الخصوصيات.. وتعززت مكانة الإنسان.. وحدد ما له.. وما عليه.. واستثمر التنوع.. وأُقصيت العصبيات.. وتوفرت أنسب المناخات.. وبالمثابرة والعمل والعلم.. وتوالي الإضافات.. واستلهام التأثر.. وهضم ما يؤخذ: شاع التنوير.. وتتابعت الابتكارات.. والمخترعات والمنجزات.
التعريب:
اتخذ إلى جانب ترجمة وتعريب الكثير من علوم وفكر وأدب وفن الحضارات السابقة.. اتخذ ثلاثة مسارات:
- مسار ديني: رسالة دينية.. بدأ بحملها ونشرها العرب المسلمون دون إكراه.. وتابعوا على هذا المنوال.. ومعهم الذين أسلموا من أمم وشعوب عديدة فتكاثر المسلمون في مختلف القارات مختارين الدخول بالإسلام.. فأقبلوا على تعلم القرآن وحفظه.. وحرصوا على فهم معانيه.. وأيضاً: الأحاديث النبوية.. واشتهر.. وبرع منهم علماء وحفاظ كبار.. ومراجع بالتفسير والحديث.. والشرع والفقه.. واللغة العربية.
- مسار بشري: تمثل في الهجرات الغفيرة المتتابعة التي اتسع نطاقها.. فشمل جميع البلاد المفتوحة.. وتوزعت هذه الهجرات بين كل مدنها وبلداتها.. وقراها بالريف والحضر.. وبمضي الزمن: نتج عن الاختلاط مدة طويلة: تثاقف وتفاعل.. وتمازج وتزاوج.. وتشارك وتعاون.. فعم التعريب لغة وثقافة.
- مسار ثقافي: منذ بواكير الفتوحات الإسلامية.. عُربت الإدارة والعملات.. والدواوين والمصطلحات وعقب انتشار اللغة العربية سادت بواسطتها علوم الأحياء.. والفيزياء والكيمياء.. والهندسة والرياضيات.. والجبر واللوغاريتمات.. والطب والفلك.. والآداب والفنون.. وفي أفضل المناخات نشطة العلماء والمفكرون بشتى المجالات.. وقد سما الإبداع.. وانتشر الوعي.
المراكز الثقافية:
ثبت بأن الثقافة العربية رحبة تملك قدرات نوعية على التأثر والتأثير.. والاستيعاب والتقريب.. والتغيير والتطوير.. والإبداع والتحديث.. والفرز والتمييز وكل ما هو نفيس.. وتطويع الصعب.. وتمهيد الوعر.. وهذا مرده عبقرية الذهنية العربية التي أبقت على المناسب من القديم.. وزادت عليه.. وعززت وعمقت.. وقد استحدثت قاعدة صلبة لكافة الفعاليات.. وكانت السباقة في إبصارها فعالية التأطير الثقافية القديمة والجديدة باعتبارها دعامة أساسية للتنوير.
أولاً: القديمة:
كانت موجودة قبل الفتوحات الإسلامية أسستها حضارات أمم سابقة، من أشهرها الإسكندرية، أنطاكية، حران، جند سابور التي رغم محدودية انعكاساتها في البداية.. وعدم وضوح معالمها: ظهر نفعها واضحاً أثناء فترة التبادل الثقافي إذ أثناءها: فُعلت معارف الحضارات السابقة التي ذابت عقب تفعيلها بالثقافة العربية.
ثانيا: الجديدة:
أسسها العرب المسلمون إبان فتوحاتهم الأولى.. وشاركهم بعدئذ مسلمون من غير العرب.. وبعض الذين يعيشون مع المسلمين من ديانات أخرى.. وهذه المراكز: بغداد، البصرة، الكوفة، دمشق، الفسطاط، القيروان، قرطبة، إشبيلية، غرناطة، القاهرة.
كانت هذه المراكز محاضن للعلوم الإسلامية كالشرع والفقه.. ولتحفيظ القرآن الكريم وتلاوته.. وتفسير معانيه والأحاديث النبوية.. وقد اتسعت مخارج اللغة العربية وآدابها.. والشعر العربي وتبعا لذلك نشأت المذاهب الفقهية وبانت محاسنها ومكانة كل منها.
كانت هذه المدن مشاعل نور وتنوير.. ووجهة طلاب العلم والاستشفاء.. والفضول المعرفي.. والعمل والمتعة.. ومع أنه وجدت إلى جانب الثقافة باللغة العربية ثقافات عديدة في لغات أخرى، إلا أن الحضارة العربية الإسلامية لم تستقر وتكتمل.. وتتفوق وتنتشر.. وترتاد على قيم إسلامية.. وأهداف إنسانية.. إلا بلغة وصياغة.. ورعاية وملامح عربية.
لقد ولدت من رحم الحضارة العربية الإسلامية نهضات.. واستلهمتها وتأثرت بها حضارات.. ويبدو أنه لا يلزمها من أهلها إلا العودة إليها بحسب المعطى الحديث.. لأن هجرها سبب قطيعة لها، أو تعصباً لها دون سواها.. وفي الحالين: ترتبك حياة الأمة المقاطعة.. أو المتعصبة ما لم تعمل على تعزيز ذاتها بما كان.. وما هو كائن معاً.