حقيقة لا خلاف بشأنها، هي أن الزمنية المكانية منطبعة بالتحرك والثبات والتشابه والاختلاف؛ فكلاهما يتغير إلى الأحسن، أو إلى الأسوأ، لكنهما بالتحرك والثبات يتباعدان؛ فالزمن حاله ليست مستقرةً؛ لأنه دائم التقلب، كثير التنقل، حدثيته لا تفتر، إن بسلبٍ، أو إيجاب، وسياقاته - على ما يبدو - غير دائرية كما يعتقد الكثيرون؛ لأن المعاودة الحدثية مستحيلة عليها التمامية تاريخياً؛ فبلحظة الاندثار إيجاد البديل ليس مطابقاً، ولكن فيه من المندثر.
الزمن طبيعته متغيرة، متعددة متنوعة، دائمة الاختلاف، بينما المكان تتغير ملامحه إن بتطوير، أو تخريب، ولا تغير لثباته جغرافياً، حتى باندثاره فموقعه ثابت لا يتغير؛ وتبعاً لذلك فإنه ليس متنقلاً كما الزمن، وكلاهما فاعلٌ، وأي فعل بالمعنى العام: ثقافة، يمتاز بها ابن آدم دون سائر خلقه، جلَّت قدرته الذي خصه بالعقل؛ فبواسطته وعى وميَّز وتأمَّل ولاحظ، وفي كل ما هو بالكون منظور تبصر، وعند وظائف مكوناته توقَّف؛ فتوصل إلى أن للخلق خالقاً، وللكون مدبِّراً، فغامر حيث استدل بالتجريب على اختبار قدراته الفكرية والبدنية، وقاس به مدى إمكاناته، ومستوى مهاراته. وعلى ضوء ما تقدم: بنى مأواه، وطها طعامه، وصنع سلاحه الذي يحميه، ويصطاد به، فطوّع وروّض، ودجن وسخر، وبعد ذلك تعرّف على بعض مكامن القوة، ومصادر الخطر، وبدأ يفرق ما بين المفيد والمضر، والمواضع المريحة والمتعبة، والآمنة والخطرة. وكرَّم تعالى شأنه بالخلافة على الأرض ليعبده، وليفرق بين الحق والباطل، والصالح والطالح، ويصل إلى مبتغاه، إن خيراً يعدم الخسران، وإن شراً يحصده، وليعمل ويتعامل، ويتربى ويُربِّي، ويتعلم ويُعلِّم، ويبدع وينتج، ويصلح، ويدعو، ويبني، ويعمر، ويزرع، ويصنع، لكنه سبحانه لم ينزهه؛ فأصلح وأفسد، وعمَّر وخرَّب، وحمد وجحد، وحنَّ وقسا، وأخلص وغدر، وحفظ الأمانة وخانها، وصدق وكذب.
وقضت حكمته استحالة مثاليته، لا لكون الإنسان بالتماثل والاختلاف، والتقابل والتضاد، وبشتى أنواع التناقضات والثنائيات تزول الرتابة من حياته فحسب، بل لتوسيعه سبحانه الخيارات ببيانه الحلال والحرام، والمنافع والمضار، والخير والشر، والحب والكره، والجمال والقبح، والفضيلة والرذيلة.. وقد لوَّن الحياة بالحرارة، وشكَّلها بالحركة والحيوية، وأغناها بالتراكمية والكيفية، والتجدُّد والتنوع، وتعاقُب الأزمنة، وتعدُّد الأمكنة، وتماثلها وتباينها بنسب متفاوتة.
إن الثقافة ما بين المعنيَيْن العام والخاص تبتدئ بفعل استطلاعي بالإبصار، وتأمُّل الأشياء، تليه عملية تمهيدية، يقررها التجريب، وبمعناها الخاص نجدها: خاصية إنسانية، مستوياتها ثلاثية: تقدم -تخلف، وما بينهما، طابعها تدريجي، وطبيعتها بطيئة، وإن صحبت الإنسان منذ أقدم العصور فالجدية، والثقة والمثابرة، والثبات للمضي بالفعل، فواعل تطويرية ونهضوية طاردة للجمود، ومستدعية للتجويد والتفعيل، التي لا تتكامل إلا بكم وكيف المواهب والإبداع، ونوع التعليم، وزمنية الوعي والبيئة المكانية، والتجربة والخبرة، والمناخات: السياسية والاجتماعية والحضارية، والأوضاع الاقتصادية. وإذا كان من المؤكد أن هذه العوامل كفيلة بتحقيق نهضة ثقافية، قد تبلغ مستوى البلورة، فيبدو أن حفظها، وتأطير فعاليتها، وتنمية المواهب، وإشاعة الإبداع، وضمان دوام تناميها بالتالي:
- إجراء مسح ثقافي دوري كل عشرين عاماً.
- حجب الازدواجيات، ونفي التضارب.
- رصد التجارب السابقة، وتفعيل المخزون العلمي والفكري بعملية فرزية تقصي التبعية، وتطمر الجمود.
- إحضار التثاقف من حين لآخر بوعي وهضم يبعدان البلادة بالأخذ لضرورة التفاعل والتلاقح، وتلوين الثقافة الوطنية أو القومية بثقافات أخرى تثريها.
- التمييز بين الأصيل والدخيل، والقديم والجديد، بمنظور يضيق المسافات، ويقلص الفروقات.
- اللاتوقف بطلب الإضافات بتكثيف الأبحاث والدراسات، والمشاركات في المؤتمرات، والمناسبات العلمية والفكرية، وإغنائها بالمراكز البحثية بشتى المجالات، والمؤسسات التعليمية كالجامعات، والمعاهد العليا، والمدارس، والعناية بالكيفية والتخصص، وبتشجيع التفوق مادياً ومعنوياً.
- العمل على إشاعة ثقافة التسامح، وتكريس القيم الإنسانية، والمسلك الحضاري؛ حتى ينهض الوعي، وترتقي المفهومات، وتحتوي العصبيات، ويتضاعف الإنتاج.
من المسلَّم به أن الثقافة بما سميناه معناها الخاص لا يقتصر على فرع من فروعها بحيث يشتمل على قاعدتها، وهو: التعليم والعلم والفكر والأدب والفن، والإبداع بجميع هذه الفروع، وهذا يستلزم تأصيلاً زمنياً ومكانياً برؤية استشرافية غير منقطعة، مستوعبة، وبحصرية مفتوحة؛ لأنه مهما بلغ كم التحصيل فالتوالي لأنها ورغم ذلك.. فطلب المزيد لا يجب أن يوضع له حد.
الرياض