قد لا يكون مجهولاً ما كانت عليه العصور القديمة من قوة عسكرية بروما، وثقافية بأثينا، وفي العصور الوسيطة أظلمت بالكهنوتية، وهيمنة الكنيسة، والاحتكار والإقطاع، وباستنارتها بالإحياء، والتخلص من سيطرة الكنيسة، وانكفاء الإقطاع، واستلهام بعض رواد نهضتها الكثير من الحضارة العربية الإسلامية.
وفي العصور الحديثة توحشت حضارتها، وتشيطنت سياستها، خاصة الدول الاستعمارية التي لم تكتفِ بالاحتلالات، والقتل والنهب، والظلم والتمييز، والتجبر والتكبر، والكيل بمكاييل عدة، بل باعت أوطاناً، وقسمت وفتتت أخرى، وقد ورَّثت للعرب تخلفها وتعصبها في العصور الوسطى، وكرست العنصرية والطائفية والمذهبية، وزرعت البغضاء، وكبلت الاقتصاد بالاستهلاك، والتوحش الرأسمالي.
الانقطاع والتكرار: الباحث بزمن مختلف وما عاصره، إن جد ونظر باهتمام واستخدم الأدوات اللازمة لبحثه، سيعي المتغيرات بأنها متوالية، تتتابع لا تنقطع، والتكرار وإن بنظر الكثير من المؤرخين منعدمة دائريته، أي لا يتكرر، يبدو أنه يحدث، لكن بجزئية، أو أكثر، غير أنه يمكن إحضار الماضي إن بالاجترار، أو بالتفعيل. والمتغيرات ليس بالضرورة أن تكون إيجابية، أو تحمل جديداً مفيداً. ومجهولية ما سيكون غير مطلقة؛ فقد تدرك بعض من ملامحه بالمتابعات والمقاربات بين مختلف الأزمنة، والملاحقة النوعية لها. وتبيُّن هذه الملامح لا يحجب مجهولية القادم بوضوح، إنما بنسبة متوسطة، وبجدية البحث، حتى بحال ما لا يكفي من الوثائق. فبالإمكان بالقراءة الواعية، والقياس والمقارنة، والمتابعة والتحري والنظر بإفرازات المستجدات.. التوصل إلى استنتاج تقريبي.
السنوات التسع التي قضيتها بلبنان في عقدي الخمسينيات والستينيات كان أثناءها لبنان مركز تفاعلات ثقافية وحضارية، وتباينات سياسية وإيديولوجية، وحياة اجتماعية ثرية بالتنوع المحفوظ بالجوار، والتعاون والتفاهم، وحراك مشمول بالوعي الذي غيب الانحرافات، ومهما تصاعدت التحديات كانت تواجه بالاستجابة التي تمنع سلبياتها، وحتى سنة 1958م؛ إذ سرعان ما أخمد الانفجار بالوعي، والتسامح والتوافق، ولا يبدو لي أني سأعي بعمر مبكر ما وعيته لو كنت في غير لبنان.
إبان هذه الفترة بهرني الإبداع الهوليودي، وذهلت بالتقانة العالية، والحرفية الرفيعة، وبعدما أدمنت مشاهدة الأفلام الأمريكية فُتنت بنجومها، وأحببت الشعب الأمريكي الذي مهما حصل بلغ ما بلغه صناعة، وعلماً وفكراً وفناً، لكنني بالرغم من كل ذلك لم أتحمس حتى الآن لأمريكا كمكان قبل زيارة العديد من ولاياتها؛ لأن سياستها المنحازة للباطل في كل مكان، خاصة وقوفها إلى جانب إسرائيل، ومباركتها وتأييدها ودعمها لها اللا محدود، تدعو إلى بغضها.
بتلك الفترة سادت حرب، برودتها قسمت العالم بين دولتين عظيمتَين، متعاديتين، حفظ صدامهما توازن الرعب، وبينهما دول غير منحازة لضبط هذا التوازن. وفي غضون ذلك أنهت الحرب العالمية الثانية تفوق الدولتين الاستعماريتين الأبرز (بريطانيا وفرنسا). وإذا حسب للرئيس الأمريكي - حينها - الجنرال (إيويتهاور) قضاؤه على (المكارثية) وتدخله المحمود لإنهاء العدوان الثلاثي على مصر، لكنه بمبدئه فرق، وقد ساند ومول الحركات والأحلاف المعادية. ولعل المفارقة كانت بتسمية الأمريكيين عقدي الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين بالأيام السعيدة Happydys التي بدت واضحة بتحويل عيون الروايات العالمية إلى أفلام رائعة، وأضخم الإنتاجات التاريخية والحربية، وأجمل الاجتماعية والكوميدية، وأمتع الأفلام الرومانسية، والموسيقية الساحرة إيقاعاً، ورقصاً وغناءً.
هذا ما كنت قد شعرت به، ولاحظته وتابعته طوال عقد الخمسينيات، وبعض سني عقد الستينيات من القرن العشرين. ويبدو أن نشوة النصر بالحرب بأقل الأضرار، وإعمار أوروبا بمشروع (مارشيل)، وإلحاق أقوى الدول الأوروبية وأكثرها تقدماً بالركب الأمريكي، والمفارقة أن الأمريكيين لم تتأثر سعادتهم في هذه السنوات رغم توازن الرعب بالحرب الباردة، ومنافسة السوفييت لدولتهم عسكرياً، وبوادر ما قد يحضر منافساً اقتصادياً وصناعياً، وربما الفقر المعرفي المنقطع الجذور، دعا الولايات المتحدة إلى التخلي عن (مبدأ مونرو) بحصر الاهتمام بمجالها الحيوي، فشاركت بالحرب العالمية الأولى، وصاغ رئيسها (ولسون) أربعة عشر مبدأ لإنصاف الشعوب، إلا أن هذه المبادئ رغم أن ميثاق (عصبة الأمم) معظمه مأخوذ منها لكنها أسقطت ولسون في الانتخابات خوفاً من أن إعادة انتخابه تورط أمريكا بالعالم القديم المثقل بالمشكلات المستعصية، وتلويث سمعتها بالاستعمار، وحتى لا تنشغل عن مجالاتها الحيوية البكر الشحيحة المعلومات عنها، وهي الأقرب والأضعف والأغنى.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن عصبة الأمم قررت الدول المنتصرة بالحرب العالمية الأولى تأسيسها لحفظ السلم العالمي بتسوية الخلافات بين الدول، والدفاع عن حقوق الإنسان، وتأهيل البلاد التي تطالب بالاستقلال لحكم نفسها، ولكن هذه المنطقة سرعان ما فشلت بعدم عضوية الولايات المتحدة فيها، ونشوب حروب وصراعات فشلت بمعالجتها. ولعله كان من سخريات القدر أن العصبة حسبت أنها قادرة على الحل، والتأهيل والتسوية، فشرعنت بضغط وتأثير (أنجلو فرنسي) الاحتلال بمسمى خادع، هو الانتداب الذي ليس فقط كان أشر وأثقل وطأة من الاستعمار، ولتنفيذ اتفاقية (سايكس - بيكو)، بل زيادة على ذلك النهب السريع؛ لأنه بمنزلة احتلال عابر، أهم هدف منه الوفاء بعهد بريطانيا بوعدها لليهود الذي تُوج صك انتداب بريطانيا على فلسطين (وعد بلفور)، وكانت الصفقة التي سلخت بموجبها فرنسا لواء إسكنرون عن سوريا، وإيران الأهواز، والجزر الإماراتية بصفقة بريطانية.