بكتابه: الجذور التاريخية للقومية العربية الذي برغم صغر حجمه.. غنيُّ المضمون جداً.. تتبع المؤرخ الراحل الأستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري: تطور الوعي العربي.. ومسارات ومراحل نموه.. داعماً سياقه التاريخي بطرح نقدي رفده بالموضوعية.. والأدوات البحثية.. وإحضار المعاصرة برؤية استشرافية نوعية نأت به عن الهوى.. وعبث الشوفنية.. وحصار الأيدلوجية.. فانطلق تجاه تاريخيته ببيان الواقع العربي المضطرب نتيجة: عجز العرب بحاضرهم عن بلورة الأسس الفلسفية لذاتهم التي أولى الخطوات نحوها: دراسة جذورهم التاريخية التي بواسطتها: تتعين الاتجاهات.. وآماد الانبعاثات.. والتطلعات التاريخية.. وبعدئذ في الإمكان: التعرف على نوع الوعي.. وقياس درجة نموه.. وأبعاد جذوره ومقوماته.. ولقوى المكونة له.
وإذا كان الهدف من ترديد مآثر الماضي.. والتغني بالأمجاد الغابرة.. إبراز القدوة التي تمثُلها لا يكفي ما لم تفعل بالشعور القديم بالذات لكي تتجذر بالممارسات عبر الأجيال المتعاقبة: فكرة العروبة الأصلية الجامعة التي أحضرها الإسلام.. فتكونت من العرب: أمة خلصتهم من الجاهلية.. وما كان يصحبها من تفكك.. وعصبية وتنابذ.. وتفرق ونزاع.. وبداوة وبدائية.. وتبعية وتهميش.. وضعف وفوضى.. فعميت وهذه ما كانت عليه حالهم.. أبصارهم وبصائرهم.
الإسلام جعل من العرب: أمة أغتنت بالقيم السامية.. والثقافة والحضارة.. والعلم والإيمان.. وقد تماسكت بالوحدة.. وقويت شوكتها.. واستقام سلوكها.. ونهض فكرها.. وارتقت مفهوماتها.. وامتلكت طاقات روحية هائلة.. وشحنات إيمانية خلاقة.. وقدرات عقلية وعملية.. ومهارة فائقة بالحكم.. والإدارة والتخطيط.
وهكذا نجد بأن العرب بعد أن جمعهم: الإسلام في أمة صاروا قادة متبوعين.. وتفوقوا في مختلف المجالات.. واشتدت عزائمهم.. وامتازوا بالشجاعة والإقدام.. والحنكة القتالية.. فسبقوا بنشر الإسلام غيرهم.. وظلوا على مدى قرنين: الأكثر حضوراً سياسياً وعسكرياً.. وفي أثنائهما تدفقوا دعاة وفاتحين.. ومهاجرين على البلاد المفتوحة بكافة قارات العالم القديم.. ومعظمها كانت غنية.. ولكنها أيضاً: كانت شعوبها تعاني من الفقر. والسخرة والاضطهاد.. والفوضى والصراعات.. وبحاجة للعدل.. ورفع الظلم.. والبناء والإصلاح.
ومنذ أن غادر الفاتحون الأوائل المعسكرات التي ألزمهم البقاء بها حتى لا تفتر روحهم القتالية: الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه.. وإلى نهاية هذه المدة.. حيث انتشروا بين حواضر وأرياف البلدان المفتوحة بالإضافة إلى الذين تلوهم.. وكان أكثرهم قد استوطنوها: التبس بتفكير بعض الشرائح من شعوب هذه البلدان مفهوما: العروبة والإسلام.. خاصة من لم يُسلموا يصفون الذين اعتنقوا الإسلام منهم بالعرب.
وعلى مدى العهدين الراشدي والأموي: كانت السيادة العربية صرفة على مختلف المستويات.. والقيادة والسلطان بالعرب: نظرياً وعملياً.. ولكنهم طوال مدة خلافة بني العباس التي دامت قروناً عدة.. وإن تراجعت مكانتهم بانحسار نفوذهم.. فذلك كان نسبياً ولم يكن مطلقاً كما يصور جملة من الباحثين.. فكثيراً ما كانوا يظهرون فاعلين.. لأن مقاومتهم لم تتوقف.. ولكنها لم تبلغ حدها الأقصى لمواجهة التحديات حتى تكون راجحة.. لأسباب سنحاول بيان ما نستطيع منها رغم أن البعض: يُصر إن عن جهل.. أو تجاهل.. أو عن قناعة.. وقد لا تخلو من الكيدية.. والتعصب والعنصرية.. فيحصرون انحسار الدور العربي بسبب وحيد يتجاهلون.. أو يجهلون: التحولات التاريخية التي استجدت معها: أسباب إلى جانب السبب الذي يُصر عليه هؤلاء الذي لا نشك قط بأنه: السبب الأهم.. والمقدم على سواه.. وهو: إشراك المسلمين من غير العرب بالحكم والسياسة.. والإدارة والجهاد.. وهذا حق.. ولكن هذا الحق لا يبدو أنه يدعو على تهميش العرب وتسفيههم.
أما الأسباب المستجدة فكثيرة.. إلا أنه لعل من أبرزها:
- التطورات التاريخية المتعددة.. والمواقف المختلفة أدت إلى ظهور الدعوة العباسية بصيغة حزبية كانت العناصر الأساسية التي أنجحتها: دعاة.. وقادة ومقاتلين من المسلمين غير العرب.. وبخاصة الفرس.. وبينهم من اعتنقوا الإسلام لتقويضه من الداخل.. وأيضاً الذين غاظهم تقدم العرب.. وبروزهم كحكام ومحاربين.. وبعضهم فقدوا مكانتهم.. ويسعون بشتى الوسائل إلى استردادها.
- معظم الخلفاء العباسيين بنسبة قد تزيد على 90% أمهاتهم كن غير عربيات.. فاعتمدوا على أخوالهم.. إلا أن هذا الاعتماد.. إذا كان الخلفاء الأقوياء قد وضعوا له حداً حين سارع مثلاً: أبو جعفر المنصور بقتل أبي مسلم الخرساني الذي بلغ الغرور به مبلغاً جعله يتمادى إلى ما تجاوز دوره.. ومستوى مكانته إلى حد أنه بدأ يظن بأن قدرته ستوصله إلى بغيته.. وهي: أن يعيد ما كان لقومه بشخصه.. ولذريته من بعد: إمبراطورية كسروية جديدة.
والرشيد.. وإن بلغت ثقته بالبرامكة مرحلة كادوا فيها يهمشونه.. بل إن إمساكهم بمفاصل الدولة.. وإطلاق أيديهم بالأموال العامة جعل الناس يقبلون عليهم أكثر من إقبالهم على الرشيد نفسه.. ولكنه تدارك ما كانوا يطلبونه بحسب ما قاله فيهم الأصمعي:
إذا ذكر الشر في مجلس
أضاءت وجوه بني برمك
وإن تُليت عندهم آية
أتوا بالأحاديث عن مزدك
فضربهم - كما يقولون - ضربة معلم، هذا ويبدو أن المعتصم مذ بنى لجنده من أخواله الأتراك الذين تأذى البغداديون من تعدياتهم: مدينة خاصة (سامراء.. أو سُر من رأى).. تابع ما يقومون به.. ورصد تحركات قادتهم إلى أن اكتشف بأن قائد جيوشه العام.. ومحل ثقته (الأفشين) كان يعمل رغم قرابته للمعتصم من ناحية الأم على الإطاحة به أثناء محاكمته كانت اعترافاته في غاية الخطورة.
وبانقضاء زمن هؤلاء الخلفاء.. وبعض الانفراجات القليلة.. وقصيرة الأمد صار الخلفاء أبان العصور التالية: مجرد دمى لا حول لهم.. ولا قوة.. ولعب يتسلى بها: مغتصبو هيبة الخلافة من مختلف الأجناس: بوبهين (فرس).. وسلاجقة (ترك).. وأكراد وتركمان.. ومنهم كان السلاطين.. والحكام والولاة.. وبعضهم أظهروا الإسلام.. ولم يؤمنوا به.. ففقد أكثر الخلفاء في عهودهم: هيبتهم إلى حد خلعهم وتنصيبهم.. وأيضاً.. قتلهم.. وبعضهم لم تدم خلافته حتى أقل من أسبوع.. وزاد الطين بله: أن حاشيتهم وخدمهم يستخفون بهم.. ومن هؤلاء من يجبرونهم على سلوك يخالف رغباتهم.. بينما العرب مع أنهم مبعدون بقوا يرون بالخلافة: رمزاً دينياً لابد من احترام مقام شاغلها.. ومرجعية سياسية: حافظة للاستقرار.. والمساس بها يفكك الحياة الاجتماعية.. ويشيع الفوضى.. ويضعف الدولة.
- مع أن العرب استعصوا على التهميش.. ولم يستسلموا لمختلف التحديات: المسلحة والفكرية.. ولكنهم أسهموا إلى حد كبير في إضعاف أنفسهم.. مما أفقدهم النفوذ.. وأبعدهم عن السيادة.. وذلك لتمكين الانقسامات منهم بالنعرات القبلية.. وتفرقهم بين عصبيات.. والذين تحضروا من العرب ركنوا للراحة.. ففترت روحهم العسكرية.. كذلك استُغل تسامح بعضهم.. فوقعوا بالشرك المنصوب لهم.
- الثأر من العرب في شعارات بعضها إسلامية في وثبات.. وهجمات بدأت ناعمة.. وقد واتت المطالبين في إشراكهم باعتبارهم: مسلمين بالحكم والإدارة.. ورغم أن هذه السياسة بدأ العمل بها.. إلا أنه بعد أن واتتهم الفرصة الذهبية بالثورة العباسية: وضحت حقيقة أهدافهم.. وهي الثأر من العرب الذين قضوا على سلطانهم.. وانتقصوا من مكانتهم.
- وبالتدرج أثناء الخلافة العباسية.. خاصة بزمنها المتأخر.. وبعد ما وصلوا إلى السلطة.. لم يكتفوا في إبعادهم.. إذ دعاهم حقدهم إلى تأسيس حركات سرية للقضاء على مفهوم العروبة.. ولما خرجت من السرية إلى العلن تطورت إلى دعوات انفصالية.. وثورات مسلحة.. وتكونت لهذا الغرض: حركات وتنظيمات فكرية.. واجتماعية معادية للعرب والعروبة.. وإذا كانت المواجهات المسلحة قوبلت من العرب في مثيلاتها ..فانتهت بخسارة الطرفين.. فمواجهة هذه الحركات كانت: الأصعب والأعنف.. والأعقد والأمضى.. والأطول من المواجهات بالسلاح.
كانت أبرز هذه الحركات التي سفهت العرب.. وهاجمت تراثهم وأدبهم.. وحقرت أخلاقهم وسجاياهم.. وقللت من دورهم التاريخي والحضاري.. وشأن الثقافة العربية.. وقد طعنت باللغة العربية.. والنسب العربي.. ورفعت في المقابل من مكانة ثقافات الأمم غير العربية.. - وبالأخص - الفارسية.
إن من أبرز هذه الحركات: الشعوبية.. والخرمية والزندقية.. وإفرازاتها كانت كثيرة.. وشديدة الخطورة.. والمعركة التي دارت معها كانت أكثر ضراوة ومرارة.. وأشرس وأطول.. وأقسى.. ولكنها ووجهت فكراً وسلاحاً.. فبطلت فعالياتها.. وأجهضت في النهاية.. ولعلها ربما كانت بحسب ما يقولون (رب ضارة نافعة).. إذ بعدها: تبلورت الفكرة العربية.. وارتفع كثيراً مستوى الوعي العربي.. وتحددت ملامح المفهوم العروبي الذي ثبت بوطن كبير لغة وثقافة.. وغلبة سكانية من العرب والمتعربة.. ويقيم في العقول والقلوب.. والوجدان والشعور ويشيع قيماً وإبداعاً.. وعلى مدى القرون كانت الجزيرة العربية المخزن البشري الذي أثرى هذا الوطن.. ومده بمقاومة التحديات.. ومهما حصل.. ويحصل.. لا يمكن تفكيكه بالتطرف والتعصب.. والشعوبية والتغريب.. والاستكبار والاستعمار.. والصهاينة.. والمتصهينين.. لأن عروبته متجذرة فكراً وشعوراً.. ولغة وانتماء.. والعرب أمة رسالتها إنسانية بحيث.. وإن ضعفت وتراجعت تستعصي على السقوط كياناً يتجدد تماسكه.. وتتصاعد نهضته.