لم تعد أخبار من نوعية «مسؤول كبير نافذ يستولي على حديقة»، «أو على أرض مدرسة» تلفت الانتباه أو التعليق، وأصبحت تمر مرور الكرام، حتى كأن الأمر لا يعني المواطن، مما يثير الشك والدهشة، فهل لم يعد المواطن يكترث بمثل هذه العناوين؟ أم أنه بات يشعر بأنها مكتوبة للاستهلاك «وفش الخلق»؟ أو لم يعد يثق بما سيحدث في المحصلة النهائية، بتساؤله الذي يظهر في عينيه: ثم ماذا؟ وماذا بعد؟ وأحياناً تجد في ملامح مواطن آخر، بلغ به الإحباط بما يحدث حوله إلى أقصاه، وأصبح يردد لكل من يثير مثل هذه الموضوعات: الشق أكبر من الرقعة!
نعم نحن نشعر براحة واطمئنان، والجهات المختصة تكشف لنا عن حالات فساد متعددة، ونحدّث أنفسنا، بأننا في الطريق الصحيح، لكن سعادتنا وطمأنينتنا تكتمل، إذا عرفنا نهاية هذا الأمر، وماذا سيترتب عليه؟ فهل كشف حالة مثل حالة المسؤول النافذ الذي طبق صك أرض حديقة، واستولى عليها، ثم حينما اكتشف أمره، حاول أن ينجو من المأزق، بالتبرع بهذه الأرض إلى جهة خيرية، هل سيحاكم بجريمة خيانة الأمانة واستغلال المنصب والنفوذ؟ وهل ستصدر بحقه أحكام وعقوبات تكون عبرة لغيره؟ وهل سيتم التعامل مع جميع المستغلين لمناصبهم ومكانتهم بالطريقة ذاتها من المحاكمة، ودونما تمييز؟
إذا كان الأمر سيتم بهذا الشكل من الانضباط والعدالة، فمن الطبيعي أننا سنقف بثبات في مصاف الدولة المتقدمة سريعاً، وسينخفض معدل الفساد إلى أقل الدرجات الممكنة، وسننافس الدول الإسكندنافية في معدلات الفساد المنخفضة جداً، وسينعكس ذلك على اقتصادنا، ومنجزنا التنموي، وعلى مستقبل الأجيال القادمة. أما ما عدا ذلك، فهو مجرد عناوين للاستهلاك العام، وسنقرأ كل ستة أشهر أو كل سنة، خبراً جديداً مثل هذا، عن اكتشاف استيلاء مسؤول كبير وسابق على أرض مخصصة لحديقة، أو لمدرسة، أو لمستوصف حكومي، ونشر عدد من قضايا الاستيلاء على المال العام!
في نظري، أن الدول يُقاس تقدمها، ونموها وازدهارها وأمنها، بما تمتلكه من أنظمة وقوانين في مختلف المجالات، تغطي كل الحالات المتوقعة، قوانين وأنظمة واضحة جداً، ومطبقة تماماً، ومعلنة أيضاً، وهذا الإعلان ليس المقصود فيه التشهير والإيذاء، بل تحذير الآخرين بأن القوانين في هذه البلاد مطبقة تماماً، وبحذافيرها، دونما تردد ولا قبول شفاعة أو ما شابه!
أما ما عدا ذلك من حلول، فهو لن يغير من الأمر شيئاً، وستستمر مسلسلات الاستيلاء على المال العام، ولن يكتفي هؤلاء بالاستيلاء ووضع اليد على أراضي الحدائق والمدارس والمساجد، بل ستطول أيديهم أكثر، وسنجد أن هناك من يطبق ملكاً خاصاً على شارع أو طريق، وستتحول الشوارع النافذة إلى مسدودة، تنتهي فجأة بسور عالٍ لمنزل أحدهم!
فاليوم طارت أرض حديقة عامة، أو مدرسة حكومية، والغد قد تطير مدينة بشوارعها وحدائقها ومدارسها، ما لم تتخذ إجراءات قضائية صارمة بحق كل من طالت يده أملاك الدولة العامة.