قضينا ردحاً من الزمن، يسوط بعضنا بعضاً بعبارة «ترضاه لأمك» و»ترضاه لأختك وابنتك»، فينتهي الحوار غالباً عند هذه العبارة، إما لأن الطرف الآخر، المقابل لقائل الجملة، لا يملك ذلك فعلاً، لوقوعه في أسر المجتمع وتقاليده، أو لأنه يستطيع القول بـ»نعم» لكنه يخشى سطوة المجتمع وسلطته وسياطه!
أذكر قديماً، شيخاً في القصيم، سأله أحد حضور مجلسه عن أزمة مجتمعية قائمة، وما زالت، حول «القبيلي» و»الخضيري» وصعوبة التزاوج بينهما، وحين استدل الشيخ بالآيات والأحاديث، وأنه لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، وأن أكرمكم عند الله أتقاكم، وإذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه... إلخ. شاغبه أحد الخبثاء قائلا: أترضاه لابنتك؟ هل تزوجها من أحد هؤلاء؟. فأسقط في يد الشيخ، واحمر وجهه، وراوغ طويلا دون أن يجيب بشجاعة، بما يتفق مع قناعاته، بل مع الدين وأدلة الكتاب والسنة!
لكن الرئيس السابق لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمكة المكرمة الدكتور أحمد بن قاسم الغامدي، الذي أثار الرأي العام في السعودية، حينما أفتى بجواز كشف المرأة لوجهها، لم يتراجع أو ينكفئ أمام أصحاب الأسئلة إياها «ترضاه لزوجتك؟» فظهر أمام الملأ في برنامج الزميلة بدرية البشر، بصحبة زوجته الفاضلة، وهي بحجابها الشرعي، ليمارس ما قاله فعلا، ويطبقه على نفسه أولاً، فكان صادقاً ونبيلا وشجاعاً، وهو يظهر مبتسماً، يحمل على عاتقه الحجة والدليل، ويترفع عن صغائر الاتهامات التي تطاله، وتطال شرفه، من أشخاص لا يمكن وصفهم إلا بالمتناقضين والمتناقضات!
هؤلاء الذين هاجموا الشيخ الغامدي، وأساؤوا له ليل نهار، يمتدحون شخصية الرئيس التركي، ولا ينكرون عليه ظهور زوجته بحجابها الأبيض في المناسبات العامة، وكأن الفتوى والممارسة تخضع للجغرافيا، وليس الدين واحد، يطبق في كل زمان ومكان!
والغريب أنه منذ أن أطلق الغامدي فتواه قبل أكثر من عام، مستنداً إلى بعض آراء السلف، ومعتمداً عن بعض الشواهد التاريخية، لم يناقشه أحد بشكل علمي، ولم يقارع الحجة بالحجة، والدليل بالدليل، وإنما تعرّض إلى هجوم وحشي عشوائي، وعبارات بذيئة يربأ المسلم الحق أن يطلقها على أخيه المسلم، وهذا مما نعيشه للآسف، يذهب المتهمون إلى سيرة الإنسان وشخصيته، دون التطرق إلى رأيه وحديثه، وهذا ما يجعلنا نخسر الكثير من فرص الحوار العلمي، الذي ندَّعي بأننا نؤيده، ونطالب به، ونقيم له المراكز والمؤسسات!
لقد كان الغامدي رجلا شجاعاً وصادقاً، أطلق فتواه وطبقها على نفسه، فما يؤمن به في داخله، يمارسه علناً، دون خوف من أحد، ودون حفاظ على ما يسمى مكتسبات مجتمعية، أو تلبية لآراء الغالبية والخضوع لها.