عشرات الجثث تتناثر يومياً على الطرقات البرّية في المملكة التي تبلغ نحو 63 ألف كيلو متر، سواء جثث معلمات استيقظن آخر الليل، وسافرن قبل الضوء إلى قرى منسية، بحثاً عن الوظيفة، أو موظف يعمل بعيداً عن مقر سكنه، أو معلم يسافر يومياً نحو قرية نائية، أو طالب لم يساعده معدله للبقاء في مدينته، فاضطر إلى الالتحاق بجامعة تبعد عن أهله، أو حافلة تقل ما لا يقل عن ثلاثين مسافراً لم يعثروا على حجز على الناقل الجوي الوطني، ولعدم توفر بديل برّي أكثر أماناً كالقطارات، أو فلاح لا يحمل رخصة قيادة، ويجلب خضاراً من قريته إلى المدينة.
هذه الجثث المتناثرة على طرقنا البرّية، رحمها الله، لم نبحث عن حلول ناجعة، لنقلّل منها، ونحافظ على الأرواح أولاً، وقبل التفكير في كيفية لمّ الجثث، لم نوفر فرصاً وظيفية للمعلمات في مقرات سكنهن، ولا للمعلمين بدلاً من المخاطرة اليومية، ولم نوفر فرصة التعليم لطالب لم يوفق في نسبة نجاح نلبي شروط الجامعة في مدينته، ولم نوفر خط سكة حديد، للبضائع والمسافرين، يخفّف من كثرة (التريلات) والناقلات والحافلات في الطرق البرية، ولم نزرع كاميرات مراقبة السرعة على هذه الطرق، ونشغّل أمن طرق حقيقياً ومخلصاً، يراقب المزوّرين، والعابثين بلوحات سياراتهم، كي لا تصطادهم الكاميرات!
لم نمنع - بعد مشيئة الله - تناثر الجثث على الطرقات، أو نسعى إلى بحث الأسباب، وتقليل معدلات الحوادث، قبل أن تتكرّم الهيئة العامة للهلال الأحمر السعودي بالاستفادة من خبرات أربع دول عالمية، في نقل جثث المتوفين على الطرق السريعة، هي إسبانيا وأستراليا وماليزيا وكوريا الجنوبية، وقبل أن تبحث عن 1400 مسعف، وتدربهم على العمل على الطرق السريعة والقرى والأرياف في مختلف مناطق المملكة، بفحص الجثة للتأكد من الوفاة، واستخدام المواد اللازمة في نقل الجثث من علب وأكياس وبطاقات تعريف لحفظ جسم المتوفى وممتلكاته، وعمليات التوثيق والتبليغ والاستلام من أقاربه!
ورغم أسفي من ذلك، أعني أن نبحث عن تجارب الدول التي نجحت في جمع الجثث من الطرق، قبل أن نبحث نجاح تجارب دول أخرى في خفض معدل وفيات الحوادث، مثل بريطانيا والدانمارك وغيرهما، وبحسب دراسة أعدتها آرامكو، قارنت فيها أعداد وفيات الحوادث في المملكة بقتلى حرب الخليج، ووجدت أن وفيات الحوادث في عام واحد (2011) بلغت نحو 7153 حالة وفاة، أي أكثر من قتلى حرب الخليج الأخيرة 90-91 البالغين نحو 5200 قتيل... وبالتأكيد نشكر الهلال الأحمر السعودي عل جهوده في (لمّ) الجثث من الطرقات في المملكة، لكن الأسف من أن تحتل المملكة المرتبة الأولى في وفيات الحوادث بالنسبة لكل 100 ألف إنسان، بخسائر سنوية من جراء الحوادث تبلغ 13 مليار ريال سعودي، وبعدد وفيات بلغت نحو 86 ألف إنسان، بينما قتلى حروب عدة دول خلال العشرين عاماً الماضية، مثل حرب الأرجنتين، حرب الصحراء الغربية، حرب الهند وباكستان، حرب الخليج، وحرب النيبال الأهلية، نحو 82 قتيلاً فقط!
صحيح أننا نحن نعاني من بقاء الجثث على الطرقات لساعات طويلة، ونعاني من استحواذ مصابي الحوادث على ثلث الأسرة في المستشفيات، بل نعاني حتى من تكدس الجثث في ثلاجات الموتى في المستشفيات، لذلك نشكر جهود من يلم الجثث عن الطريق، ونشكر توسع المستشفيات وزيادة طاقاتها الاستيعابية، ونشكر توسعة ثلاجات الموتى، لكننا قبل ذلك، سنشكر أكثر بكثير من يفعل الأسباب، ويبذل الجهود، ليحد من حالات الوفاة، ويحافظ على أرواح المواطنين!