ولد محمد بن مسلم بن شهاب الزهري القرشي في المدينة عام 58هـ، ومات بشغب، آخر حد الحجاز عام 124هـ، وقد نزل الشام واستقر بها، وله علم واسع فهو أول من دون الحديث، وهو أحد أكابر الحفاظ والفقهاء، تابعي من أهل المدينة، وكان مشهوراً بالحفظ فقد قيل إنه يحفظ ألفين ومائتي حديث، وكان مشغولاً بالكتابة علاوة على اهتمامه وحفظه، فكان يكتب كل ما يسمع،
حيث يحمل صحفه وألواحه معه، ولمكانته العلمية، كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: عليكم بابن شهاب فإنكم لا تجدون أحداً أعلم بالسنة الماضية منه.
رأى عشرة من الصحابة رضوان الله عليهم، كما روى عن كبار التابعين، وروى عنه جماعة من كبار الأئمة منهم مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، وقد روي عن عمر بن دينار أنه قال: أي شيء عند الزهري؟ أنا لقيت ابن عمر ولم يلقه، وأنا لقيت ابن عباس ولم يلقه.. فقدم الزهري مكة، فقال عمرو: احملوني إليه، وكان قد أقعد، فحمل إليه، فلم يأت إلى أصحابه إلا بعد ليل، فقالوا له: كيف رأيت؟. فقال: أما والله ما رأيت مثل هذا الفتى، القرشي قط، وقيل لمكحول: من أعلم من رأيت؟ قال: ابن شهاب، وكان قد حفظ علم الفقهاء السبعة.
وحضر الزهري يوماً مجلس هشام بن عبد الملك، وعنده أبو الزناد، فقال هشام له: أي شهر كان يخرج العطاء فيه لأهل المدينة؟ فقال الزهري: لا أدري، فسأل أبا الزناد واسمه عبد الله بن ذكوان عنه، فقال: في المحرم، فقال هشام للزهري: يا أبا بكر، هذا علم استفدته اليوم، فقال: مجلس أمير المؤمنين أهل أن يستفاد منه العلم.
كان الزهري إذا جلس في بيته، يضع كتبه حوله، فيشتغل بها عن كل شيء من أمور الدنيا، فقالت له امرأته يوماً: والله لهذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر.
وقد أخبر عن أول اتصاله بعبد الملك، أنه قد ضاقت حاله، ورهقه دين، فخرج من المدينة إلى الشام فجالس قبيصة بن ذؤيب، قال الزهري: فبينما نحن مع قبيصة ذات ليلة نسمر إذ جاء رسول عبد الملك فقال: أجب أمير المؤمنين. فذهب إليه ثم رجع.. فقال: من منكم يحفظ قضاء عمر في أمهات الأولاد؟ قلت: أنا. فأدخلني على عبد الملك بن مروان فسلمت عليه، فقال: من أنت؟ فانتسبت له. قال: إن كان أبوك لنعاراً في الفتن، قلت: يا أمير المؤمنين عفا الله عما سلف. قال: اجلس. فجلست. قال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: اقرأ من سورة كذا، ومن سورة كذا، فقرأت. فقال لي: أتفرض؟ أي تعلم علم الفرائض. قلت: نعم. قال: ما تقول في امرأة تركت زوجها وأبويها؟ قلت: لزوجها النصف ولأمها السدس ولأبيها ما بقي.. قال: أصبت الفرض، وأخطأت اللفظ، إنما لزوجها النصف ولأمها ثلث ما بقي وهو السدس من رأس المال، ولأبيها ما بقي. قال: فإن الفريضة على حالها، وهو رجل ترك زوجته وأبويه. فقلت: للزوجة الربع، ولأمه الربع ولأبيه ما بقي. قال الزهري: فقال لي: أصبت الفرض، وأخطأت اللفظ، ليس هكذا الفرض، للزوجة الربع، ولأمه ثلث ما بقي وهو الربع من رأس المال، وللأب ما بقي.
ثم قال: هات حديثك. قلت: حدثني سعيد بن المسيب: أن فتى من الأنصار كان لزم عمر بن الخطاب، وكان به معجباً وأنه فقده، فقال: ما لي لا أرى فلاناً، فأرسل إليه فجاءه، فإذا هو بَذُّ الهيئة -أي رثِّها-. قال: ما لي أراك هكذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن أخوي خيروني بين أمي وبين ميراثي من أبي، فاخترت أمي، ولم أكن لأخرجها من على رؤوس الناس، فأخذتها بجميع ميراثي من أبي، قال: فخرج عمر مغضباً، حتى رقي المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه وقال: أما بعد، أيها الناس فأيّ امرئ وطئ امرأة فولدت منه، فله أن يستمتع منها ما عاش، فإذا مات فهي حرة، فقال عبد الملك: هكذا حدثني سعيد بن المسيب فقلت: يا أمير المؤمنين، أقض ديني، قال: قد قضى الله دينك، قلت: ويفرض لي أمير المؤمنين، قال: لا والله ما نجمعهما لأحد، قال: فخرجت فتجهزت حتى قدمت المدينة، فجئت سعيد بن المسيب في المسجد لأسلم عليه، فدفع في صدري. وقال: انصرف وأبى أن يسلم علي.
فخشيت أن يتكلم بشيء، يعيبني به، فيرد به من حضره، فتنحيت ناحية إلى أن قام فصلى أربع ركعات وانصرف، ومعه ناس من أصحابه، فلما خلا وبقي وحده. قلت: ما ذنبي؟ أنا ابن أخيك، واعتذرت إليه، وما يكلمني. حتى بلغ منزله، واستفتح ففتح له، فأدخل رجله ثم التفت إلي. فقال: أنت الذي ذهبت بحديثي إلى بني مروان؟
وقد أورد ابن عساكر قصة قدومه على عبد الملك، وكان ذلك في بداية طلبه العلم فأعطاه ونصحه بأن يلزم الأنصار فقال: قال الزهري :أتيت عَبْد الملك بن مروان، فاستأذنت عليه، فلم يؤذن لي، فدخل الحاجب، فقال: يَا أمير المؤمنين إن بالباب رجلا شابا أحمر زعم أنه من قريش، قَالَ: صفه، فوصفه له، قَالَ: لا أعرفه، إلا أن يكون من ولد مسلم بن شهاب، فدخل عليه، فقال: هو من بني مسلم، فدخلت عليه، فقال: من أنت؟ فانتسبت له، وقلت: إن أبي هلك، وترك عيالا صبية، وكان رجلا مئناثا، لم يترك مالا، فقال لي عَبْد الملك: أقرأت القرآن؟ قلت: نعم، قَالَ: بإعرابه، وما ينبغي فيه من وجوهه وعلله؟ قلت: نعم، قَالَ: إنما فوق ذلك فضل، إنما يعايا ويلغز به، قلت: نعم، قَالَ: أفعلمت الفرائض؟ قلت: نعم، قَالَ: الصلب والجد واختلافهما؟ قلت: أرجو أن أكون قد فعلت، قَالَ: وكم دين أبيك؟ قَالَ: كذا وكذا، قَالَ: قد قضى الله دين أبيك، وأمر لي بجائزة ورزق يجري، وشراء دار قطيعة بالمدينة، وقال: اذهب فاطلب العلم ولا تشاغل عنه بشيء، فإني أرى لك عينا حافظة، وقلبا ذكيا، وائت الأنصار فِي منازلهم. قَالَ الزهري: وأخذت العلم عنهم بالمدينة، فلما خرجت إليهم إذا علم جم، فاتبعتهم حتى ذكرت لي امرأة نحو قباء تروي رؤيا، فأتيتها، فقلت: أخبريني برؤياك، فقالت: كان لي ولدان واحد حين حبا، وآخر يتبعه، وهلك أبوهما، وترك لي ماهنا ( ) وداجنا ونخلات، فكان الداجن نشرب لبنها ونأكل ثمر النخلات، فإني لبين النائمة واليقظانة، قَالَ القاضي: هكذا فِي الخبر، المشهور فِي العربية اليقظى، ولنا جدي، فرأيت كأن ابني الأكبر قد جاء إلى شفرة لنا، فأخذها، وقال: يَا أمه، قد أضرت بنا، وحبست اللبن عنا، فأخذ الشفرة، وقام إلى ولد الداجن، فذبحه بتلك الشفرة، ثم نصب قدرا لنا، ثم قطعه، ووضعه فيها، ثم قام إلى أخيه، فذبحه بتلك الشفرة، وانتبهت مذعورة، فإذا ابني الأكبر قد جاء، فقال: يَا أمه، أين اللبن؟ فقلت: شربه ولد هذا الداجن، فقال: ما لنا من هذا من شيء، وقام إلى الشفرة، فأخذها، ثم أمرّها عَلَى حلق ولد الداجن، ثم نصب القدر، قالت: فلم أكلمه حتى قمت إلى ابني الصغير، فاحتضنته، وأتيت به بعض بيوت الجيران، فخبأته عندهم، ثم أقبلت مغتمة لما رأيت، ثم صعد عَلَى بعض تلك النخلات، فأنزل رطبا، ثم قَالَ: يَا أمه ادني، فكلي، قلت: لا أريد، ثم مضى فِي بعض حوائجه، وأتى القدر، فإني لمتكئة عَلَى بلسن عندي -ابلسن بعض ما يكون في رحل القوم من المتاع الذي يتكأ عليه وهو اسم أعجمي وقد استعمل- كما في المعجم- بمعنى ما يعلى عليه من كرسي أو ما أشبهه-، إذ ذهب بي النوم، فإذا أنا بآت قد أتاني، فقال: ما لك مغتمة؟ فقلت: لكذا وكذا، ولأن ابني قد صنع كذا وكذا، فنادى يَا رؤيا يَا رؤيا، فجاءت امرأة شابة حسنة الوجه طيبة الريح، فقال: ما أردت من هذه المرأة الصالحة، قالت: ما أردت منها شيئا، فنادى يَا أحلام يَا أحلام، فأقبلت امرأة دونها فِي السن واللباس والطيب، فقال: ما أردت من هذه المرأة الصالحة، قالت: ما أردت منها شيئا، فنادى، يَا أضغاث، يَا أضغاث، فأقبلت امرأة سوداء الخلقة، وسخة الثياب دونها، فقال: ما أردت من هذه المرأة، قالت: رأيتها صالحة، فأردت أن أغمها، قَالَ: ثم انتبهت، فإذا ابني قد أقبل، فقال: يَا أمه، أين أخي؟ قلت: لا أدري حبا إلى بعض الجيران، قَالَ: فذهب يمشي لهو أهدى إلى موضعه حتى أخذه، وجاء به، يقبله، ثم قعد، فأكل، وأكلت معه.
وكان ابن شهاب قوي الحافظة، ويحرص على الطعام المعين على الحافظة ليأكله، وغيره المعين على النسيان وتخفيف الذاكرة فيجتنبه، يقول: ما استودعت قلبي شيئاً قط فنسيته، وكان يكره أكل التفاح - ويقول: إنه ينسي، كما كان يشرب العسل ويقول: إنه يذكر، ويقول ما أكلت تفاحاً، ولا أصبت شيئاً فيه خل مذ عالجت الحفظ.
وذكر مالك بن أنس عنه نماذج كثيرة في قوة الحفظ، ومن ذلك قوله: حدث الزهري بمائة حديث، ثم التفت إلي، فقال: كم حفظت يا مالك؟ قلت: أربعين حديثاً. قال مالك: فوضع الزهري يده على جبهته ثم قال: إنا لله... كيف نقص الحفظ!!!.
وقد أثنى العلماء عليه في الحديث وسعة العلم، والحفظ والضبط، قال مالك: أول من دون العلم وكتبه ابن شهاب، وقال سفيان: كان الزهري أعلم أهل زمانه، وكان عالم المدينة. وقال عمر بن عبد العزيز: ما رأيت أحداً أحسن سوقاً للحديث إذا حدث من الزهري، وقال عمرو بن دينار: ما رأيت أحداً آمن في الحديث من ابن شهاب، وما رأيت أحداً الدينار والدرهم أهون عليه من ابن شهاب، وما كانت الدنانير والدراهم عنده إلا بمنزلة البعر...
فرحم الله الزهري فقد كان عالماً حافظاً، وكان يزيد ابن عبد الملك قد استعمله على القضاء.