يقول عز وجل من قائل في سورة الروم، في توضيح لصورة الإنسان العامة، وتبصير بوضعه الحاضر وما يؤول إليه، لكي يسترشد ويرتبط بخالقه في كل أمر، سموا((خلقيا))، وتعبدا», وجدانيا» وشكرا» مع التبصر والاعتبار:
يقول عزَّ من قائل في سورة الروم، في توضيح لصورة الإنسان العامة، وتبصير بوضعه الحاضر وما يؤول إليه، لكي يسترشد ويرتبط بخالقه في كل أمر، سمواً (خلقياً)، وتعبداً», وجدانيا» وشكرا» مع التبصّر والاعتبار: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}، إنها حكمة الله البالغة، ليجول فيها عقل المؤمن، عبادةً لربه، وتبصّراً في نفسه، وذاته وكيانه لأنه أقرب شيء إليه، ليتمعن في أصل النشأة، ويسبح خيال هذا العقل في أطوار حياة هذا الإنسان فهو ضعيف البنية الجسدية، حسب الأصل الذي خلقه الله منه - ماءٍ دافقٍ -, ثم في الخلية الدقيقة المتناهية في الصغر، التي ينشأ منها الجنين، ثم في تتبع مراحل هذا الجنين وأطواره، وهو في بطن أمه، في عالم غريبٍٍٍٍٍٍِ عن الحياة الدنيا وما فيها من خيرٍ أو شرٍ، محفوظ بعناية الله من كل شيءٍ يؤثّر فيه عقلياً» أو جسدياً»، حتى الشيطان قد حماه الله منه. في هذه الأطوار الواهنة ضعفاً ثم يهيئ الله له قلوباً رحيمةً، وأفئدة حانيةً بعد ما يولد ويخرج للحياة، أثناء طفولته وفي صباه، حتى تكتمل قوته، فكانت شريعة الإسلام مراعيةً لهذا الضعف في الرحمة والحضانة، والنفقة والكفالة، وفي التكاليف والأوامر.
ويتحدث صاحب الظلال عن هذا الضعف بقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ}. ولم يقل خلقكم ضعافاً أو في حالة ضعفٍ،إنما قال: (خلقكم من ضعف) كأن الضعف مادتهم الأولى التي صيغ منها كيانهم، والضعف الذي تشير إليه الآية، ذو مكانٍ ومظاهر شتى في تكوين هذا الإنسان. إنه ضعف البنية الجسدية الممثل في تلك الخلية الصغيرة الدقيقة التي ينشأ منها الجنين، ثم في الجنين وأطواره، وهو فيها كلها واهن ضعيف، ثم في الطفل والصبي، حتى يصل إلى سن الفتوة، وضلاعة التكوين، ثم ضعف المادة التي ذرأ منها الإنسان: الطين. الذي لولا نفخة من روح الله، لظل في صورته المادية، أو في صورته الحيوانية، وهي بالقياس إلى الخلقة الإنسانية ضعيفة. ثم هو ضعف الكيان النفسي أمام النوازع والدفعات، والميول والشهوات، التي لولا النفخة العلوية، وما خلقت في تلك البنية من عزائم واستعداداتٍ، لكان هذا الكائن أضعف من الحيوان المحكوم بالإلهام، ثم يجعل الله بعد هذا الضعف قوةً، بكل المعاني التي جاءت في الحديث عن الضعف: قوة في الكيان الجسدي، وفي البناء الإنساني، وفي التكوين النفسي والعقلي.. ثم يأتي بعد ذلك ضعف في الكيان الإنساني كله، فالشيخوخة انحدار إلى الطفولة بكل ظواهرها، وقد يصاحبها انحدار نفسي ناشئ عن ضعف الإرادة، حتى ليهفو الشيخ أحياناً كما يهفو الطفل، ولا يجد من إرادته عاصماً، ومع الشيخوخة الشيب، يذكر تجسيماً وتشخيصاً، لهيئة الشيخوخة ومنظرها. وإن هذه الأطوار التي لا يفلت منها أحد من أبناء الفناء، والتي لا تختلف مرةً فيمن يمد له في العمر، ولا تبطئ مرةً، فلا تجيء في موعدها المضروب، إن هذه الأطوار التي تتعاور تلك الخليقة البشرية لتشهد بأنها في قبضة مدبرةٍ، تخلق ما تشاء، وتقدّر ما تشاء، وترسم لكل مخلوق أجله وأحواله وأطواره، وفق علم وثيقٍ، وتقدير دقيقٍ: {يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} هذا الإنسان الضعيف، الذي قال عنه المختصون، والمتابعون لأطوار حياته: بأن المواهب فيه تتفتح تدريجياً منذ ولادته، وتكبر مع نمو جسمه، حتى إنه لا يبدأ الكلام في العادة قبل مضي سنة من عمره، ولا يمشي بأقل من ذلك الزمن، حيث استنتج التربويون أن ذهنه في الغالب لا يستطيع استيعاب العلوم الدراسية إلا بعد استكمال ست سنوات، جعلوها العمر التعليمي لبدء الدراسة الابتدائية. هذا الإنسان يجعل الله فيه قدراتٍ خارقةٍ، هي من المعجزات التي يودعها الله منيشاء من عباده، برهاناً على عظمة الخالق المبدع جلَّ وعلا، كما حصل للثلاثة الذين تكلموا في المهد، وقص القرآن الكريم علينا حكاية اثنين منهم هما: الغلام الذي برّأ الله بكلامه، نبيه يوسف مما اتهم به من جريمة الزنى، مع امرأة العزيز، وعيسى عليه السلام، الذي وحَّد الله أولاً، وبيّن أنه عبد الله ورسوله، وبرّأ أمه مريم عليها السلام مما اتهمت به زوراً وبطلاناً, باقتراف الزنى، لأنه لم يكن في مألوفهم أن تلد امرأة من دون زوج..
ذلك أن المألوف في حياة الناس: أن الصبي في المهد لا يتكلم، وإنما يعبّر عمّا يحس به من آثار وانفعالات بالصياح، تتعود عليها الأم، لتعرف من مجريات أعماله، ماذا يعبّر عنه من إحساسٍ بهذا الصياح فتستجيب له: رعايةً وعناية ً.
ولذا طرح ابن القيم الجوزية - رحمه الله- في كتابه التبيان في أقسام القرآن هذا السؤال، وأجاب عنه كجزء من أسرار النفس البشرية، التي يجب أن يتبصّر فيها الإنسان، لتكبر في نفسه عظمة الخالق، الذي خلق الإنسان من العدم، وأبدع تكوينه، وركب فيه الإحساس والعقل، وأوجد فيه أعظم أسرار الحياة وأدقها، إذ كل دقيقةٍ في جسمه، وكل خليةٍ وعملها وتكوينها، ما هي إلا من عناية الإله، وتدبيره، حيث تعجز العقول عن إدارك الخفايا، وتقصر الأفئدة عن الإحاطة بالأسرار، وهذا مما يدعو للإقرار للخلاّق العظيم بكمال الربوبية، ومطلق القدرة..
فقال -رحمه الله-: فإن قيل فما السبب في بكاء الصبي حالة خروجه إلى هذه الدار؟!
وأجاب عن ذلك بقوله: قيل هُنا سببان: سبب باطن أخبر به الصادق المصدوق لا يعرفه الأطباء، وسبب ظاهر.. فأما السبب الباطن فإن الله سبحانه اقتضت حكمته أن وكل بكل واحد من ولد آدم شيطاناً، فشيطان المولود قد خنس ينتظر خروجه ليقارنه ويتوكل به، فإذا انفصل استقبله الشيطان وطعنه في خاصرته، تحرماً عليه وتغيظاً، واستقبالاً له بالعداوة التي كانت بين الأبوين قديماً، فيبكي المولود من تلك الطعنة، ولو آمن زنادقة الأطباء والطبائعيين بالله ورسوله، لم يجدوا عندهم ما يبطل ذلك ولا يرده. وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: (صياح المولود حين يقع نزغة من شيطانٍ) وفي الصحيحين من حديثه أيضاً قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا نخسه شيطان، فيستهل صارخاً من نخسه، إلا ابن مريم وأمه) وفي لفظ آخر: (يمسه حين يولد، فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه) وفي لفظ البخاري: (كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه بأصبعه حين يولد، غير عيسى ابن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب).
والسبب الظاهر الذي لا تخبر الرسل بأمثاله لرخصه عند الناس، ومعرفتهم من غيرهم، هو مفارقته للمألوف والعادة التي كان فيها إلى أمرٍٍ غريب، فإنه ينتقل من جسم حار، إلى هواء بارد، ومكانٍ لم يألفه، فيستوحش من مفارقته وطنه، ومألفه، وعند أرباب الإشارات أن بكاءه إرهاص بين يدي ما يلاقيه من الشدائد والآلام والمخاوف..
ولهم نظير هذه الإشارة في قبض كفه عند خروجه إلى الدنيا، وفي فتحها عند خروجه منها، وهو الإشارة إلى أنه خرج إليها مركباً على الحرص والطمع وفارقها صفر اليدين منها، وأنشد في ذلك:
وفي قبض كف المرء عند ولادةٍ
دليل على الحرص الذي هو مالكه
وفي فتحها عند الممات إشارة
إلى فرقة المال الذي هو تاركه
.. فما أعجب خلق الله، وما أعمق أسرار النفس البشرية.