تترسخ في الأذهان مفاهيم كثيرة، وتبقى أسيرة الفؤاد مدة طويلة، ويصعب انتزاعها من الأذهان إلاّ إذا تم تكرير وإعادة المعلومة المخالفة لما رسخ في الذهن، ليتم الاستبدال، وتبنى نتائج الدراسة الجديدة، التي قد تكون مخالفة لدراسة سابقة، لا سيما أن تطور الأبحاث وأدواته تجعل الإنسان أكثر وثوقاً بما هو جديد. وكنت أراجع بعض الوريقات التي أحتفظ بها، والتي تستهويني في وقتها، ووجدت مقالاً عام 2006م في إحدى الصحف اليومية، وكان عنوانه «مراجعة معلومات الغذاء الصحية أصبحت ضرورة بعد رواج أخطاء طبية وشعبية حوله»، وكانت تلك المقالة تتحدث عن السبانخ، وهل هي مصدر غذائي جيد للحصول على الحديد، ويذكر الدكتور الكاتب للمقالة مشكوراً، أن تشويش المعلومات الصحية حول السبانخ والحديد بدأت في عام 1870م عندما قام الدكتور فان وولف بنشر نتائج أبحاث تحاليله لمكونات أوراق السبانخ وتأكيده آنذاك أنها تحتوي على عشرة أضعاف كمية الحديد الموجودة في غيرها من الخضروات الورقية، وظل هذا المفهوم من المسلّمات العلمية بين الأطباء وأخصائي التغذية، وانتشر بين الناس، وربما ساعدت شخصية بوباي البحار الكرتونية التي ظهرت عام 1929م على نشر هذا المفهوم.
وقد بدأت الجهود في إعادة الدراسات حول السبانخ والحديد عام 1937م من قبل مجموعة من الباحثين الألمان، عندما أعادوا التحليل، وأكدوا أن النتائج أظهرت أن السبانخ يحتوي من الحديد على 10% فقط مما كان يعتقد من قبل، ومع مرور حوالي 70 عاماً منذ ذلك الحين، إلاّ أن الناس لا يذكرون هذا التعديل في المفهوم وظلوا متمسكين بالمفهوم القديم.
وفي التسعينات تم إعادة الأبحاث لمعرفة الحقيقة لا سيما أن أدوات البحث وأساليبه قد تطورت تطوراً كبيراً، وتبيّن أنّ قدرة إمعاء الإنسان على امتصاص محتوى السبانخ، لا يتجاوز نسبة 2 إلى 5% منه. ووفقاً لنشرات الإدارة الحكومية للزراعة بالولايات المتحدة، تبين أن كمية بوزن 100 جرام من أوراق السبانخ المطبوخة والمصفاة تحتوي على نحو 3.6 ملغ من الحديد، أي كمية تسد نحو 30% من حاجة الرجل اليومية منه، وحوالي 20% من حاجة المرأة، لو تم امتصاصها في الأمعاء بصورة طبيعية، وعند مقارنتها بمنتجات حيوانية ونباتية أخرى غير معززة بالحديد، نجد أن 100 جرام من كبد الدجاج تحتوي ما يسد 70% من حاجة الإنسان، وفي 100 جرام من الفستق ما يحقق أقل من تلك النسبة بقليل، أي أن هناك مصادر أخرى للحديد أكثر بكثير مما هو موجود في السبانخ التي ارتسخ في أذهان الناس أنها المصدر الأكثر عطاءً للحديد.
وعموماً فالجسم بطبيعته لا يمتص في الغالب وفي الحالات الطبيعية أكثر من 15% من حديد الطعام، وتزداد شراهة الامتصاص عند تدني نسبته في الجسم، ولا شك أن امتصاص خلايا الأمعاء للحديد الهيموغلوبين يتم بسهولة ليصل إلى 35%، وهناك عوامل تساعد في امتصاص الحديد مثل فيتامين سي ، أو حمض الستريك، كما هي موجودة في البرتقال والليمون.
ومن الأمثلة المشابهة الأخرى، المفهوم السائد بارتباط البيض والروبيان بالكلسترول، وارتفاعه في الدم، والواقع أن دراسة تمت في 1997م في جامعة هارفارد، أكدت انعدام أي علاقة بين تناول البيض، وارتفاع كلسترول الدم أو ظهور أمراض شرايين القلب، إلا أن عامة الناس بل وبعض الأطباء ، لا يزالون غير مصدقين أو محجمين عن نقل تلك الحقيقة لمجرد الخوف، أو عدم القدرة على تجاوز الموروث الطبي الذي بقي عالقاً في الذهن عبر الأجيال التي تناقلته، وأصبحت جزءاً من ثقافته رغم الإثبات القاطع بعدم صحة ما رسخ في الذهن من مفهوم خاطئ في الوقت الحاضر، حتى تأتي أبحاث أخرى قد تناقضه.
إن رسوخ المفاهيم المتوارثة لا تقتصر على الغذاء فحسب نجدها في الموروث لدى الأمم والشعوب، وحول الأمم والشعوب والأفراد، فالصينيون مثلاً يرون أنّ شرب الماء البارد مضر، كما يرون أنّ شرب الشاي الأخضر يساعد في الهضم، ويرون أنّ الأكل في غير الأوقات المحددة، لا سيما الإفطار الساعة السادسة صباحاً، والغداء الساعة الثانية عشرة ظهراً، والعشاء الساعة السادسة مساءً مضر بالصحة، وهكذا من المفاهيم هناك، وفي منغوليا رأيت عدة مرات مرضى، لا يتوقفون عن شرب لبن الفرس اعتقاداً منهم أنه علاج للأمراض بشتى أنواعها، وفي المملكة لدينا الكثير من المفاهيم الغذائية الموروثة ، مثل السمن البري وتقويته للجسم، وبول الإبل لتنعيم الشعر، ومن بعد للعلاج أو الوقاية من بعض الأمراض الخبيثة.
وهناك أيضاً موروثات مرتبطة بالحالات النفسية والجسدية مثل المبالغات في الوهم بالسحر والعين والجن، وربط كل مشكلة أو مرض نفسي أو جسدي بإحدى هذه العجائب الثلاث، ومن المؤسف أن الناس مازالوا يبالغون في الربط بهذه العجائب حتى يومنا هذا، بل من المؤسف أنها تزيد مع الزمن، ويتبناها أبناء الجيل الجديد، بإيمانٍ مطلق، بأنّ تأثيرها قائمٌ لا محالة.
وحتى حول الدول والأفراد تجد أن الكثير من المفاهيم تترسخ وتبقى حتى مع تغير الدول والأفراد، ولكن لا يمكن تعميم ذلك فالمنتج الياباني مثلاً كان ينظر إليه بأنه غير جيد، ثم أصبح مدعاة للاطمئنان مع تغير التوعية.