لفتت نظري نصيحة قيادي جهادي للمستجدين الجدد في الجهاد بأن لا يبحثوا عن ذواتهم أو عن الحقيقة، وإن فعلوا سيقودهم ذلك إلى الليبرالية، ولعل تاريخ الصحوة ورموزها يحكي تلك القصة، فالصحويون الذين بحثوا عن النجومية في الدعوة والإعلام انتهى بهم الأمر ليصبحوا أقل تشدداً وأكثر تسامحاً، والساحة الإعلامية تزخر بنجوم دعاة فاقت شهرتهم نجوم الرياضة والفن، وقد يكون تحقيق الإنجاز والعمل من أجل الحفاظ عليه هو العامل الأهم في عملية التغيير.
لذلك كانت المقدمة الحضارية في المجتمعات المتقدمة تتلخص في عبارة «دعه يعمل.. دعه يمر»، وكانت الأجواء الاقتصادية والاجتماعية تهيئ الشباب للعمل بقيود أقل، وبحقوق أكثر، وذلك من أجل تحقيق الإنجاز ثم المحافظة عليه، ويتطلب ذلك مزيداً من الحريات الاقتصادية، ومزيداً من الحقوق للانطلاق في سماء الإبداع، وقد استغل بعض الدعاة المنجزات الغربية في التواصل والنشر الحر في مهمة الوصول إلى النجومية.
لذلك يظهر خلاف كبير بين الاتجاهات الدعوية والجهادية، والتي تنهى عن التعامل مع نجوم الصحوة، لسبب أنهم سياسيون، ويتعاملون مع الناس من خلال الكلمة والحوار، ويرفض بعضهم خيارات العنف والإقصاء للتغيير، ويتمتعون بقبول مشروط للآخر، وقد كان لبعض النجوم الدعاة حضور لامع في الإعلام الليبرالي.
بينما يقوم المجتمع الجهادي المعاصر على مبادئ الطاعة المطلقة والانقياد والثقة، ويبني في عقل المجاهد المستجد أنه لا يملك قراره، فحياته يجب أن تُسخر لخدمة الدين الذي يعتقدون أنه الحق، وبالتالي هو مجرد رقم ينتظر دوره في طابور التضحية أو الانتحار في سبيل القضية، وإن كان ذلك من خلال حزام ناسف في مجمع سكني، وينتشر في المجتمعات على اختلافها مندوبون للترويج لذلك الفكر بين الفئات المحبطة والتي لم تجد فرصاً لتحقيق ذواتها.
يغيب عن هؤلاء الضحايا أنهم في حقيقة الأمر يضحون من أجل أشخاص اختاروا أن يكون في أبراج عالية وبعيدة عن ميادين المعارك، والمفارقة في الأمر أن معظم قادة الحركات السياسية والثورية في التاريخ يأتون من عائلات برجوازية، وتحرص على النجومية وتحقيق الإنجاز بدماء الأتباع الذين ليس لهم خيار في البحث عن الإنجاز.
كانت ثورة الزنج أشهر حركة حقوق في تاريخ المسلمين (255 هـ)، والتي أنهكت دولة الخلافة العباسية قبل أن تقضي عليها، وقد كان عماد هذه الحركة في بادئ الأمر بعض العرب المغامرين من المهالبة والهمدانيين وغيرهم، وشارك فيها الزنج والقرويون،.. وكان قائدها شخصية هاشمية تُدعى علي بن محمد، ويعود نسبها إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي.
كذلك الحال في الحركات الجهادية المعاصرة، فأغلب زعمائها شخصيات من عائلات ثرية وذات وجاهة اجتماعية، لديهم القدرة على تطويع ثقافة الجهاد الدينية من أجل تحقيق الإنجاز السياسي، لكنهم يرفضون أن يتحرر الأتباع من قيود الطاعة، وعن تحقيق ذواتهم، لذلك تحتاج المجتمعات العربية مزيداً من الحريات والحقوق من أجل خلق أجواء مهيأة لتحقيق الإنجاز والبحث عن المجد الشخصي.
يتكون المجتمع المتطور من عدد لا حصر له للمنجزات الفردية، وكلما ازدادت أعداد أصحاب الإنجاز، اقترب المجتمع من درجة الوصول إلى نقطة التطور، لذلك تحتاج الدول العربية إلى تغيير شامل في بنيتها الثقافية، لأنه من الصعب أن نكافح الثقافة التبعية الاستبدادية من خلال نفس المنظور، ولكن تستطيع أن تتجاوز مثل هذا الفكر من خلال إطلاق الحريات والحقوق، وفتح الأبواب للشباب من أجل المرور والعمل.
سبق، وأن كررت في أكثر من مقال أن أكثر نسب التجنيد الجهادي تتأتّى من الفئات المغيّبة والمحبطة، لذلك يندر أن التحق الناجحون في حياتهم العملية والعلمية بركب الإرهاب، وقد نحتاج إلى دراسة ميدانية لمسح الخلفيات الاجتماعية والمهنية للمجنَّدين في حقول الإرهاب، وسنجد أن أقل نسب المجنَّدين تُوجد في الشركات الكبرى والبنوك، نظراً لما يتمتعون به من فرص نجاح عملية.
لهذا السبب يجب النظر إلى المقولة الشهيرة «دعه يمر.. دعه يعمل» من خلال حل عملي ومجدٍ للتقليل من تصاعد أرقام المجنَّدين، وذلك من خلال دعم بيئة العمل، ومنح الشباب فرصاً حقيقية لكي ينطلقوا لتحقيق الإنجاز في حياتهم العملية، ولن يحدث ذلك بدون الخروج من الأنماط التقليدية في تكوين الثروات وتحقيق الإنجازات.