تشكل وعي كثير من السعوديين في ظل الطفرة المالية، و تكونت لدى بعضهم رؤية غير منسجمة مع الواقع، وأن هذه البلاد حباها الله بالثروات التي تجعل منها دوماً في خانة الدول الغنية، وقد أدت تلك التصورات إلى ظهور فلسفة اجتماعية تقوم على «اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب «، وهو سلوك اجتماعي يفتقر إلى ثقافة الادخار، ويقوم على الاستهلاك ووهم أن الثروة النفطية لا تنتهي ولن تنضب، إلى أن يشاء الله نهاية العالم في يوم ما، وهي فلسفة قدرية غير واعية بالمستقبل.
في اتجاه مضاد يظهر سلوك اجتماعي خطير وأكثر شراسة من سابقه، وهو للأسف وعي نخبوي اجتماعي، ليس لديه ثقة في المستقبل، و يعتقد منتسبوه أن جمع الثروات الطائلة جداً بأي طريقة، ولو كان ذلك من خلال قنوات الفساد الإداري والمالي و استغلال مراكزهم الاجتماعية هو طريق النجاة، بينما يغيب عن هؤلاء أنهم مهما جمعوا من ثروات خرافية لن تنفعهم، فالتاريخ علم الكثير من هؤلاء أن الوطن ليس له بديل مهما امتلك المرء من الثروات الطائلة.
قد لا يدرك البعض أهمية الوطن الآمن في حياة الإنسان، فالوطن هو ذلك البيت الدافئ الذي يحمي أبناءه من العواصف والبرد والضياع في يوم الشتاء القاسي، وهو الأرض الذي تشعر بالأمان والطمأنينة عندما تنزل إليه بعد غياب، ومن لم يجرب الغربة والبعد لا يمكن أن يدرك معاني الوطن وأهميته في بناء مشاعر الثقة واحترام الذات والإحساس بالأمان، لذلك لا يمكن أن تكون الثروة مهما بلغت لا يمكن أن تكون عوضاً عن الوطن.
الجشع غريزة إنسانية، وتعتبر المحرض الأكبر لجمع المال بأي طريقة كانت، فالجميع وإن اختلفت نسب الجشع في عروقهم يودون أن يصلوا إلى «الرقم» الذي يُشعرهم بالأمن المعيشي ويغنيهم عن فكرة « الوطن « للجميع، ولكن هل يوجد رقم يغني الإنسان عن وطنه ؟، و هل يوجد رقم يقف الإنسان عنده ؟، فالتملك الجشع والرغبة الجنونية في امتلاك كل شيء فطرة إنسانية، وإن ظهر أمام الناس في هيئة العفة والنزاهة، وإذا لم يوجد رادع لن تتوقف تلك الرغبة البدائية عن البحث عن الأمن في الأرقام، ولن تجدها !..
أكتب هذه المقدمة بعد صدور التقرير السنوي لمنظمة الشفافية الدولية الأخير، و الذي وضع السعودية في المرتبة الـ55 ضمن مؤشرات مدركات الفساد لعام 2014 في القطاع العام من بين 175 دولة في العالم، وبعد أن قرأت جملة منسوبة للأستاذ عبد الله العبد القادر نائب رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في السعودية (نزاهة)، «نعم لدينا فساد مالي واقتصادي وإداري على جميع المستويات والأطر»، في ندوة أخيرة عن نزاهة وبعد أربع سنوات منذ تأسيسها.
أيها السادة الكرام لدينا خلل واضح في مكافحة الفساد، فالأرقام تتحدث عن عدم اكتراث بمقدمات « نزاهة «، وما صاحبها من احتفائية إعلامية بعد تأسيسها، ويبدو أنها أضعف من أن تنتصر على أوجه الفساد المالي والإداري، وهو ما يؤثر على أمن الوطن ومستقبله، ولعل تصريح النائب العبدالقادر يقول ذلك بصورة مباشرة، فالفساد ينخر في جدران الوطن، وينذر بكوارث إذا لم نصحح مسار مكافحة الفساد.
صورة نزاهة في المجتمع تبدو كحمل وديع أمام ديناصورات الفساد في القطاع العام، وتظهر تلك الصورة الرمزية لها في تصميم « الأكشاك « التي تنتشر في ردهات المقرات الحكومية، ويقف في داخلها شاب يقوم بدور أشبه بحملة العلاقات العامة، ويوزع الكتيبات التي تحاول تبييض صورة قاتمة عن « النزاهة « في الوطن كما بدت في تصريح النائب العام، وكما تظهر صورتها الحقيقية في مظاهر المحسوبية التي لا تكترث بالقوانين وتعتقد بثقة أنها فوق مصالح الوطن، وأنها خارج مبادئ الحساب والعقاب، ومن لا يعجبه يشرب من ماء البحر.