جاءت براءة الرئيس المصري الأسبق وأبنائه ووزير داخليته لتسدل الستار على آخر فصول الثورة المضادة في مصر، والتي بدأت أول فصولها بثورة 25 يناير الشعبية ضد مظاهر الفساد الإداري والمالي في حكم الثلاثة العقود للرئيس السابق، وجاءت البراءة لتعيد الأخلاق السلطوية القديمة إلى الواجهة، وإلى ضرورة احترام منطق القوة والتاريخ، وأن ثمن الاستقرار أن تُبجل السلطة بمختلف أوجهها في المجتمع، مهما كان الثمن.
كان ثغرة الثورة المصرية التي عادت من خلالها السلطة السابقة انتصار الإخوان المسلمون في الانتخابات، وتلك الرغبة غير الطبيعية لديهم في إحكام السيطرة على البلاد تحت شعار الدعوة للحق، وقد كانت محاولة فاشلة لإعادة أخلاقيات تدعو إلى ضرورة احترام الرموز الدينية، وفرض تراتبية دينية في المجتمع، فيها تمثيل لما يرونه أنه الحق، وكان نتيجته انقسام أبناء الثورة، واستغلال السلطة العميقة لذلك الانقسام.
الصراع الإنساني هو في حد ذاته نزاع أخلاقيات مختلفة، وفي المجتمع العربي المسلم كان الصراع منذ البدء بين أخلاقيات الحق وأخلاقيات القوة، وكان المنتصر أخلاقيات القوة بعد عقدين من بدايات تأسيس الدولة في عصور المسلمين الأوائل، والتي قدمت ذرائع لوجوب احترام منطق القوة في المجتمع، وأن يكون السلطان مصدر الخير والشر، وأن يتصرف من خلالهما لفرض السلطة في المجتمع من خلال تراتبية للقوة.
في المقابل تسعى التيارات الدينية المعاصرة والسابقة إلى فرض أخلاقيات فيها تبجيل لمنطق الحق، الذي يمثله بشر يعتقدون أن لهم منزلة خاصة عند رب العالمين، وأنهم يجب أن تكون لديهم حماية خاصة أو مكانة مختلفة عن بقية البشر، ويحاول أتباعهم أن يبررون تلك الطبقية على أنها من الواجبات الدينية، وتدخل في الطاعة التي حث الله عز وجل عليها في كتابه المقدس..
في حين كانت القلة في الثورة المصرية تؤمن بالتفريق بين الأخلاقيات بإطاراتها المختلفة، وبين وجوب احترام سلطة القانون، والذي ينبغي أن تكون له اليد العليا في إحكام العدالة والمساواة، وفي إلغاء الامتيازات التي مصدرها الدين أو القوة الاجتماعية، ولهذا السبب تاه هؤلاء في فصول المعركة القديمة الأجل بين أخلاقيات الحق وأخلاقيات القوة.
السؤال الذي يفرض نفسه في هذه المقدمة، لماذا دائما ما يكسب منطق القوة في المجتمع العربي عند مواجهة تيارات الحق المطلق ؟، وقد تدخل الإجابة في متانة علاقات المصالح السلطوية في المجتمع، والتي دائما ما تكون لها الكلمة العليا في كثير من الصراعات، فالناس بطبيعتهم يخافون على مصالحهم، مالم يدركون تماماً أن التغيير سيكون في خدمة مصالحهم، لذلك يسرعون في العودة إلى الخلف. إذا شعروا بالخوف من المستقبل.
فشلت الثورة المصرية في مواجهة السلطة الاجتماعية القديمة لأنها كانت غير متجانسة وغير متفقة على مفاهيم إنسانية محددة، منها أن يكون الناس متساوين في الحقوق والواجبات، وأن لا سلطة فوق سلطة القانون، ولو كانت دينية، لذلك كان الخوف من سلطة الإخوان وتراتبية الأخلاقيات الدينية سبباً للتراجع عن الثورة والعودة إلى سلطة القوة الاجتماعية.
فشل أخلاقيات منطق الحق المطلق في الوصول إلى السلطة من خلال الثورة الجماهيرية تكرر في كثير من فصول التاريخ كان أشهرها الثورة الشعبية على دولة بني أمية في ما عرف بثورة النفس الزكية، وقد جاهر أبو حنيفة بوجوب نصرة إبراهيم أخي النفس الزكية حتى قال: إن المساهمة في هذه الثورة تكفر عن الذنوب، لكن منطق القوة العسكرية انتصر أخيراً مثلما انتصر في مصر.
يتكرر كثيراً في فصول الفلسفة الغربية أن ميكافيلي كان أول من هاجم الأخلاق الدينية وسلطة الكنيسة بعد قرون عديدة من سلطة الكنيسة، وأنه أعاد الاعتبار لأخلاق القوة، التي ستعيد مجد الإمبراطورية الرومانية، لكن ما يخفى على المسلمين أن العرب أسقطوا مبكراً الأخلاق الدينية، عندما أعادوا منطق القبيلة للحكم، وإلى أن تكون لها اليد الطولى فوق أي اعتبار آخر..
لعل الأسباب حسب وجهة نظري المتواضعة تعود إلى أن الأخلاق الدينية السيادية غير متفقة فيما بينها، فقد كان هناك منذ البدء فرق وشيع كثيرة تختلف في مقدماتها في الأخلاق السياسية، ويعود السبب لأنهم أصوليون وجامدون في تفكيرهم، ويرجعون الاختلاف إلى مقولات ومرجعيات دينية مقدسة متنافرة، في حين يدركون فيما بينهم أنهم في حقيقة الأمر يقدمون السياسة في قالب ديني متعصب، وذلك من أجل احتكار السلطة والمنفعة، وهو ما جلعهم فرقاً ومذاهب متصارعة..
من أجل الخروج من هذه الأزمة الأخلاقية المتصارعة يجب البدء في تأسيس أخلاقيات متجددة، لا تفرق بين البشر بسبب درجات إيمانهم أو بسبب حسبهم ونسبهم أو لأسباب المال والجاه، ولكن تضعهم تحت إطار سيادة القانون جميعاً بدون أي اعتبارات أخرى..