منذ الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 وموجات التطرف لا تتوقف عن الخروج، ولعلها الآن تمر في طفرة لا مثيل لها منذ قرون؛ فما يحدث الآن في العراق وسوريا هو بمنزلة حرب عالمية مصغرة ضد التطرف الإسلامي، وما يحدث في البلاد العربية بشكل عام يدخل في صلب المواجهة بين القوى الليبرالية بزعامة أمريكا والأصولية والأفكار الشمولية بقيادة داعش. وفي خضم هذه المعارك جاءت نصحية الزعيم السوفييتي السابق جورباتشوف للرئيس الروسي الحالي بوتين في وقتها المناسب، عندما قال إنّ بوتين «أصيب بالمرض نفسه الذي أصابني في وقت سابق، وهو الثقة الزائدة بالنفس»، وقال موجهاً حديثه لبوتين: «لا تركب رأسك؛ فإن هذا هو ما خرب حياتي».
ولو استعرضنا التاريخ الحديث من خروج الفاشية والنازية إلى سقوط جدار برلين لأدركنا أن العالم الليبرالي يمتلك بلا منازع فرص الفوز والانتصار في الحروب والاقتصاد، وما يحدث الآن من حروب بين الأصولية الدينية والغرب هو أقرب لمسابقة مناطحة الجدران، وهي - بلا شك - معركة خاسرة، وفيها إهدار للأموال والطاقات البشرية والثروات الطبيعية، والأسوأ من ذلك أن يعتقد أنه سيهزم الغرب بالأحزمة الناسفة والأسلحة التقليدية والمهربة من السوق السوداء للسلاح.
سينتصر الغرب؛ لأنه امتلك مفاتيح النصر منذ قرون، وعمل من خلال أساليب معرفية متقدمة لامتلاك براءات الاختراع، وللتغريد بعيداً في مجال التحكم في قوى الطبيعة، وكان له ما أراد؛ لأنه عمل على أسس فلسفية، تقوم على مبدأ أنهم في سباق مع بقية العالم للفوز بالسيطرة على أسرار الطبيعة. كذلك انتصر؛ لأنه أتقن عملية الحفاظ على السلم الاجتماعي من خلال تفعيل الثقافة الديمقراطية وسيادة القانون، ولأنه فرض أخلاقياته المبنية على مصالحة الوطنية والاقتصادية.
ستنهزم القوى الشمولية أمام الغرب؛ لأنها لا تملك إلا ثقافة الاستبداد والتحريض والغضب والخطب الرنانة والتعصب والتطرف، ولأنها كانت سبباً لخراب السلم الاجتماعي في كثير من الدول، ولأنها لا تعترف بسلطة العلم والمعرفة، ولكن تعتمد على الاتكالية غير المحمودة، ولأنها لا تعترف بالاختلاف داخل النسيج الاجتماعي الواحد، ولأنها «تركب رأسها» في أغلب الأحيان، وتصر على أنها على صواب، وأن الله - عز وجل - معها، ولو خالفوا شريعته بقتل الأبرياء في المجتمعات الآمنة.
سينتصر الغرب الليبرالي في حروبه القادمة مع الأصولية؛ لأنه يعرف كيف ينتصر، وستنهزم القوى الأصولية؛ لأنها تفتقر إلى أبسط مقومات النجاح. ولا يعني ذلك أنني أتفق مع الأهداف الغربية في العالم، ولكن أؤمن بأن العاقل خصيم نفسه، وأن الثقة الزائدة في النفس مهلكة في كثير من الأحيان، وقد كان مصير الأفكار الشمولية مثل النازية والفاشية والشيوعية الفشل أمام الفكر الليبرالي الذكي جداً، الذي استطاع أن يفرض هيمنته على العالم بسبب أطروحاته الفلسفية الاجتماعية والاقتصادية، وبسبب قدرته على التغيير والتطور والتواصل.
ما يحدث الآن في الأمة هو بمنزلة الانتحار الجماعي أمام قوة عالمية، لا تفرط في مكتسباتها التاريخية، وتملك مختلف خيارات القوة، بينما نُدفع في مواجهته بدون عقل، وبلا حكمة، ويأتي ذلك بسبب غياب العقول التي تطرح أطروحات قادرة على بناء أسس مستقبلية للأمة، وبسبب عقول لا تملك إلا سلاح العودة للماضي، وبدون وعي بالمتغيرات الكبرى التي حدثت في العالم، فالغرب في الزمن المعاصر يختلف جذرياً عن الأساليب البدائية للإمبراطورية البيزنطية.
وفي نهاية الأمر لا يمكن الإقرار بما فعله وما يفعله الغرب الليبرالي في المنطقة العربية، منذ الحرب العالمية الأولي، ومروراً بتأسيس دولة إسرائيل، لكن الغرب لا يزال يملك القدرة على فرض مصالحه في الوقت الحاضر.
وإذا أردنا الانتصار في قضيتنا الجوهرية مع الغرب المهيمن فعلينا أولاً تجاوز سياسة «ركب الرأس»، ثم الانتصار على قوى الجهل والتخلف والاستبداد التي تظهر ملامحها في كثير من الخطب الثورية والأصولية، وفي كثير من خطب الوعظ التي تربط النصر على قوى الكفر بالمحافظة الشديدة والانعزال عن العالم. بينما لم يعد خافياً على أي إنسان على هذه الأرض أن الاستثمار في العلم والمعرفة والصناعة والاقتصاد وإقرار مبادئ السلم الاجتماعي التي تنص على احترام الآخر والتعددية والديمقراطية هما أولى خطوت سلم الصعود إلى التفوق. فهل نتوقف عن فلسفة الانتحار الجماعي.. ونبدأ مسيرة الألف ميل بخطوة في اتجاه المستقبل.