على المثقف الحصيف أن يكون برج إنذار مبكر لمجتمعه، والضوء المرشد لسفينته في العواصف والضباب والرياح والزوابع، أن مهمة المثقف الحقيقي المدرك والواعي جليلة ولها معايير عالية وثمينة، أن الأفكار ليست سوى أشباح ضعيفة، فإن لم تجد قلما صلباً يساندها ويكون عموداً
فقرياً لها، تلاشت بصمت دون أن تترك سوى بخار ذكرى، الأفكار لا صوت لها، فإن لم تجد من يصرخ بكل وضوح دفاعاً عنها، ضمرت وكتمت أنفاسها وماتت، مهما كانت أفكاراً عظيمة، يجب أن نميز تماماً بين تعريض أفكارنا إلى اعتداء المجاملات عليها، وبين تعريضها لصراع الأفكار المقابلة، ففي الوقت الذي نقسو عليها قدر ما أمكن في مبارزات الأفكار الصريحة المباشرة، فإن من واجبنا أن نحميها من لزوجة المجاملات الخانقة، وفي الوقت الذي لا نأسف على أفكارنا أبداً إن هي سقطت في ميادين مقارعة الأفكار المقابلة، ولا نتردد في تبني الأفكار الجديدة المنتصرة، فإننا نأسف عليها إن اختنقت تحت ثقل مجاملاتنا، إنني هنا أدعو إلى أفكار مثالية، وأنا شديد القناعة بأن لا مفر من توازن ما بين الإخلاص لما هو صحيح، وبعض المجاملة الضرورية المقننة لإدامة المجتمع، حين أقلّب صفحات الصحف، والمواقع الإلكترونية، أصاب أحياناً بالغثيان، يبدو لي وأنا أفعل ذلك، أنني أمام قراء وكتاب تشكلوا بشكل عصابات مجاملة، يبدأ كل كاتب بتكوين عصابته، ربما من أول مقالة أو قطعة أدبية ينشرها، فيدور في المواقع ويكتب سطور المديح، لكل من يجده مرشحاً مناسباً ليكون ضمن أفراد عصابته، ولعل النشاط وكمية النشر أكثر ما يهم هذا الجديد فيطري ويسبح بغير حساب، ورغم أن البعض يمتدح بلا شك عن اقتناع وبشكل محدد، إلا أن البعض الآخر يبدو وكأنه كان يبحث عن عبارة يقتطفها ليضيفها في نهاية أو بداية تعليقه، ليبين أنه لم يعلق دون أن يقرأ، هكذا تتكون لدى كل كاتب من هؤلاء، شبكة نفاق جميلة! لا يتبادل أفرادها من الحديث والحوار والنقاش، إلا ما يسر كل به الآخر ويبعث فيه المزيد من الثقة بالنفس والفخر بإنجازها، حتى إذا ما أتم الكاتب الجديد إنشاء عصابته، فاتسعت وتعمقت، خرجت عن سيطرته، وصار صعباً عليه حتى إن أراد، أن يخرج منها، وصار عسيراً وغير طبيعي أن يكتب في داخلها إلا ما ينتظر منه من مجاملات وتفنن في عبارات المديح، وإن اضطر يوماً إلى أن يكتب ملاحظة سلبية لم يستطع مقاومتها، فإنه سيحرص على إحاطتها بإطار من المديح والثناء يموه به نقده ويفقده تأثيره وناره الحارقة للخطأ والمعقمة لما هو صحيح، تعيش هذه الشبكة حياتها بهناء، تتبادل تحايا رفع المعنويات، حتى إن غاب عنها أحد أفرادها وأحس بالحاجة إلى الراحة، ذهب ليكتب مقالة أو قطعة أدب، وانتظر المديح المريح، ولا يجب أن ينسى هذا أن يدفع الثمن بمابرته على توزيع المديح هو أيضاً لكل من يكتب من شلته، شلة تعيش على حساب الحقيقة وواقع الحال، نعم كلنا نسر بالمديح، وتسعدنا أجواءه، لكن عندما يغتال المديح كل الحقائق، يصبح المديح خطراً وأجواؤه مريضةً، لقد انتشرت هذه الشبكات والشلل، وثبتت ثقافتها المسيطرة على الإنترنت والصحف، حتى أنك ما أن تكتب استحساناً لكاتب، إلا واعتبر هذا أنك تطلب الانضمام إلى عصابته، ولو أنك كتبت رأياً منتقداً له بعد ذلك لاستغرب من فعلتك وبحث فوراً عن الأسباب الشخصية لهذا العمل الحقود وتساءل: ماذا فعلت له؟، لقد كنت أعتبره كاتباً! لا يخطر ببال هذا الأخير أبداً أنه ربما كان هناك فعلاً ضعف أو نقص أو خطأ في مقالته، فهذه الأمور ليست معتادة، لذا يفترض أنه هجوم شخصي مقنع بشكل هجوم على المقالة، لقد انتشر هذا الوباء حتى صارت الإصابة به هي الأمر الطبيعي، ولم يعد اكتشاف عوارضه على كاتب ما، أمر يدل على سوء الكاتب أو أنه كاتب منافق، بل جاء فرأى ما سار آباؤه عليه فسار خلفهم، وهو مطمئن بأنه ليس سوى ابن بار بالثقافة السائدة العليا، لذلك لا يجب أن يفهم من هذه المقالة أنها هجوم على شخصيات معينة، إنما هذه المقالة تنبيه إلى وباء ثقافي خطير يخون الأفكار والمستقبل وينتصر لتثبيت الخطأ المريح، وباء يفقد منارة الثقافة مهمتها في تسليط الضوء وتحديد الخطأ من الصحيح، فترسل بدلاً من ذلك أضواء ملونة مموهة، جلها ليس سوى انعكاس مباشر وغير مدروس لإسقاطات إعلامية مشبوهة وتشويشية تزيد الناظر ضياعاً، رغم أنها قد تسره باختلاطها وافتقادها للخطوط المحددة التي تتطلب التفكير المجهد اللازم للحكم والاختيار، إنني لا أحب الكتابة التي تطفو في مياه عمومية هلامية، كما أني لا أحب أن أتجنب الأمثلة الحياتية في العادة في كتاباتي، على المثقف أن يدرك أن مهمته في التغيير نحو الأفضل مهمة لطيفة دائماً، وأن موقفه يتطلب البناء، وليس الهدم، وأن البناء الصحيح والقوي والجيد لن تتاح له مساحة الأرض لكي يقوم عليها ما لم يتم هدم ما هو خاطئ وضعيف وسيئ، نعم، يريد الناس أن يكون المثقف لطيفاً ومجاملاً، لكنهم يطالبونه قبل ذلك أن يكون دقيقاً صادقاً واضحاً، ومن واجبه أمام نفسه أيضاً أن لا يخلط أسسه ومفاهيمها في عجينة لا خطوط ولا شكل لها، مع كل ما هو ضعيف وخاطئ ومتناقض، مجاملةً له، إن من يفعل ذلك يفقد قدرته على التصحيح، والمثقف الذي يتمسك بالمجاملة دائماً، عليه أن ينسى ألامه بعالم أفضل، وأن يقتنع بما هو موجود وحاصل.