يتيمة هي تتدثر بالبرد وبالأحلام الباهتة، الليل يدق بقوة عليها التمرد، ويهيل على أحلامها بقايا الرماد، لا القمر أضاء عليها المدائن، ولا الطير غنى تراتيله، ولا الشمس بانت عليها أو زانت، وحتى الوردة لم تعد قادرة على أن تنبت على قطرة الماء المصفى، أو تعانق الغيمة بقايا الكبرياء، حزنها أشلاء تتبع أشلاء، مثل نهر وزخات مطر، وحال يتمها يسقط من عينها رؤاها
ويوطن صدرها بالضجر، لقد نامت عندها القصيدة والبحر والقمر والرغبة والقيثارة، وجاءتها الريح برعونة تبتغي سوء الجراح وتعيد للوجه العفر، لم يعد الموج عندها يكسر شواطئ الغروب، ولا المنارة تضيء شعلة الضوء، ولا الحداة قادرون على البوح بنص حالها، اللغة صارت عندها عارية، والسهام طاشت، ومراجيح المنى تكسرت، والظمأ سال حتى سكن العظم، اليتيمة تبعثرت حتى بزغت في شكل إيماء، لا الشمس ردت التحية، ولا الوردة ضمدت الجراح، ولا عشبة الربيع تآخت مع الروح، هو الجمر عندها صار اشتعال، والهشيم غياب، والمرايا صارت طاعنة بالظلام، اليتيمة صارت جراحا، حلم ضرير، شجراً مات في ثنايا الصباح، لا نسائم الليل عندها ناعمة، ولا البحر أحضانه دافئة، ولا سكن الهدوء هضاب الجسد، ولا الحكايات تريد الانعتاق من حيز الخذلان، الضوء عند اليتيمة صار خافتا، والشحوب ظلال، والفجر مؤجل، والنوافذ معتمة، والضوء أعمى، والهم جذوة اشتعال، والتأويلات فتيل جمر، والأسى محفز، واليتم ينبثق من بين دماء العروق، هي اليتيمة حزن وشتاء يخنق عري الشجر، لا مائها ماء، ولا السحاب سحاب، ولا خرائط الروح خرائط، ولا طائر السنونو صار طائرا، ولا حديقة الدهشة هي الحديقة، ولا منحتها جرار العسل بعض الغذاء، اليتيمة أصبحت قيثارة عويل مستباحة، سفينة نواح، وضرب عواصف، ومحض غبار، وسقف هواء غير عليل، وظل ريح، وسلة تراب، وناي أنين، لا ياقونة صباح اليتيمة أصبحت مبللة برذاذ المطر، ولا بقي في السقف ثريا، ولا ارتدت أرضها حلة العشب، ولا كسا خدها شال الندى، لا طائر اليمام غنى الياسمين، ولا الكناري غرد لحن الربيع، ولا ركض في الجسد برق الحياة، أو رعد المطر، في روح اليتيمة ندوب كبيرة، ومقاعد خالية، وكسوف حياة، ورأس مشتعل بأطراف المصيبة، اليتيمة هي الآن مثل مرآة فارغة، وقنينة عطر مكسورة، ونظرة باهتة، ومشهد ضئيل، لا هي غيمة تتهادى، ولا عشبة يانعة، ولا رابية باسقة، لقد تمادى عندها الملح في الجرح، وانبرى السهم وطاش، ونامت الغصة في أحداق الفراشة، وسل الظمأ الروح، ودارت همهمات الريح بالريح، وغدى الحزن يردي شهوة الحياة عندها ويقتات.