البارحة رأيته في أسماله البالية، جسده النحيل أنهكه المرض اللعين، حتى حوَّله إلى شبح، الغبار أستفحل على وجه، عيونه مرتخية كمن حاصره النوم، ثم أدركته بقايا يقظة، بشرود يحاول الالتفات إلى الخلف، لديه نوبة سعال ترتج لها أعضاء الجسد، حالة خدر رهيب، ورهبة مشتتة، تراكمت على نفسه طبقات من الحزن والأسى،
يعبث بشعر رأسه ولحيته بربكة، تفاجئه ابتسامة ساخرة، تشبه سوء حاله وقلة حيلته، حياته تحوّلت من النقيض إلى النقيض، للموت أقرب مما هو للحياة، لا يعرف الضوء والماء، في حياته ظلمة وخراب، ولا يعرف للعبور دروباً، مثل زرع احترق، وينبوع شح، وقنديل انطفأ، الحزن يترمل على وجهه كجاثوم، هواجسه تتربص به، وحلمه هرب، كان وردة نضرة، وكبرياؤه شموخ، وخطواته كملك، وأحلامه باذخة، وتطلعاته زهرة يانعة، البؤس الآن يحاصره، والهم يغذيه، والمرض يدجج جسده النحيل بالألم، ووجهه زرع تماماً بالشيب والتجعدات، وأسنانه لم يعد عندها ذلك البريق الحاد، ولا تشبه البلور، صار مثل تربة أنهكها العطش، ومسالكه صارت أمنيات خائبة.
قال لي: أنا يا سيدي ضحية العقوق، عقوق من عقني يغلي في نفسي ويجتث الطيب والأنيق والبهي فيها، هم يجوبون الدنيا طولاً وعرضاً ويحصدون الفرح، وأنا كما ترى تحوّلت إلى ما يشبه الهيكل، لهم عيون ونوايا وخفايا لا حصر لها، يوهموني بالسعادة، ولم أجن من هذا الوهم غير التيه والتمزّق وتلف الحياة، سطو علي، وشربوا مالي ودمي، حاكوا لي اللعب، ثم جلبوا لي التعب، ولم أجد بعدها خياراً سوى التشرّد والضياع، وجوههم كالحة، لا يرون مانعاً من قدوم الموت لي، هم مثل نار شرسة، وحفرة مخيفة، ها أنذا يا سيدي كما ترى أصاحب الأرصفة، كل رصيف يقذفني للآخر، وكل شارع يلفظني للآخر، وكل واحد يرمقني بعيونه الجافلة، الخوف والحزن والفقد والأسى وكل ما هو ماكر ساخر يحيط بي، كم أسعى للخلاص من هذا الثقل المرير الذي يطاردني ويهفو للقضاء علي ويدمر ما تبقى لي من مقاومة، ها أنذا أتمزّق شيئاً فشيئاً، مثل قماش سميك، يتمرأى أمام عيني حقل من حنطة، لكنني لا أستطيع الاعتناء به ولا حصاده، صراخ الندم في صدري يظل طيلة الوقت قائماً يقض هدوئي ويربكني ويشل تفكيري، وكوابيسي لا تنتهي، ماذا جنيت من وراء ظمأ لا يمكن أن يهمد؟ ها أنذا أمضي نحو القاع، لقد تخشبت وصرت مثل حطب، خرافة، وسامتي تحوّلت بفعل العقوق إلى ندوب وحفر وتجاعيد، حتى حفيدتي الحسناء التي تشبه صفاء الماء ولون التفاحة ونضارة العنب لم تعد تألفني، أنا حزين إلى أقصى حدود الحزن، والكآبة تلوذ بي، وحاجتي بالغة للفرح، عندها صدرت منه غصة، تحوّلت إلى شهقة، بدأ لي وهو باك كرغيف حنطة خرج من النار، تمنى لو أنه يفترس ندمه المجنون، ويقضم ضيمه وقهره وعطشه وخيباته، جسده الناحل تراءى لي غير قادر على إزاحة الأشياء التي حاصرت سنواته بالجدب، حزنه الذي تراكم طويلاً على صدره صار يتنفسه بصعوبة بالغة، لفحته حرارة وجعه حتى حوّلته إلى كائن لا يشبه الكائنات السوية، ابتلع ريقه وهو يخطو مبتعداً دون أن تغيب ضحكته الساخرة، لكني أحسها عنده مثل شوك وأسياخ حديد وزجاج متناثر.