كنت في أحد الأماكن العامة ذات مرة، وكان بجانبي أربعة شبان يتناولون الطعام، وعبث أحدهم بطعامه ووطئ عليه بقدمه، فصرخ به أحدهم، وشتمه، ثم خَتَم بكلمة قبيحة فيها قذف لأم الشاب المخطئ!
يُقال في المثل السائر: «أراد أن يُكحّلها فأعماها!»، وهذا يصف الموقف، فالشاب الأول غضب مما فعله الثاني من إهانة لنعمة الله، وهو فعلٌ سيئ بلا شك، فالمسلمون يموتون جوعاً في مناطق مثل بنغلاديش وأفغانستان وسيراليون، وهذا المبذِّر يلعب بالطعام بشكلٍ وقح، لكن غضب الأول بدلاً من أن يخرج بهَيئة مُصلِحة بانية ظهر بطريقة مُفسدة هادمة، فأولاً أخطأ بأن وبّخه ليس أمام الاثنين الآخرين فحسب بل أمام كل الحاضرين. قال الإمام الشافعي في بيان هذا المبدأ:
تَعمَّدني بنصحك في انفرادي... وجنّبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع... من التوبيخِ لا أرضى استماعه
هذا لو نُصِح الشخص أمام الناس بطريقة لطيفة، ففيه إحراج، فكيف بالصراخ والشتم؟
ثانياً وهو مربط الفرس، اتّباع الشاب الأول لهذا الأسلوب الهجومي البذيء مخالف لأبرز مبادئ النصيحة، فهذا الأسلوب لا يأتي بنتيجة بل بعكسها بالأرجح، ناهيك عن مساوئ أكبر مثل إيجاد الضغائن والأحقاد. إذاً ما الأفضل؟ النصح بحكمة، ولطف، ورفق. قد يقول مُعترض: لكن أن يطأ شخصٌ الطعام عمداً فِعلٌ يستحق التوبيخ! وهو فعلاً عملٌ قبيح، لكن العِبرة بعاقبة النصح، فالهدف إيقاف الفعل باقتناع الشخص، فهل سيَنتَج هذا من الصراخ والسبّ؟ لا. والأسوأ أن الشاب الأول لم يكتفِ بالشتم بل قذف أم الشاب الآخر بكلمة دارجة على بعض الألسن للأسف ولا يدري قائلوها مدى فظاعتها وعِظَمها عند الله، حتى إن ديننا جعل القذف من الذنوب السبع الموبقات.
قد يصنع شخصٌ آخر شيئاً أسوأ. ربما يتهاون أحدهم في فرائض الإسلام. ربما يفعل البعض شيئاً فيه إساءة أو إهمال أو خطأ. الكثير من الأشياء نراها ونُنكرها. لكن احرص أن تنصح برفق دائماً قَدْر قُدرَتِك، ولدينا دليلٌ يستحق التأمل، وهو ما حصل لرسول الله عليه الصلاة والسلام مع شرِّ الأمم، فقد دخل عليه جماعة من اليهود فقالوا: السَّامُ عليكم (السام هو الموت، والكلمة مشابهة في النطق لكلمة «السلام»، وظنوا أنه لن ينتبه)، قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: ففهمتُها، فقلت: وعليكم السام واللعنة! فقال رسول الله: «مهلاً يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله».
تأمّل! هؤلاء يهود، أخبث الأمم، يدخلون على رسول الله، خير البشر، والذي أعطاهم الكثير من الدعوة والنصح، راجياً أن ينقذهم الله من النار، ويعلمون أنه رسول الله، ويدخلون عليه في بيته، فيدعون عليه بالموت! قد يعتقد الشاب المذكور سالفاً أو الكثير من الناس أن هذا أحق المواقف بالشتم واللعن والصراخ، لكن حتى هنا حثنا رسول الله على الرفق والتلطّف.
متى ما رأيتَ شخصاً فظاً يُغلِظ النصح دائماً فقل: أأنتَ خير من رسول الله؟ أَوَأَنا شر من اليهود؟ ألا فارفِق!