نحن البشر لدينا الكثير من المواهب، فنستطيع الركض بسرعة عالية ونحطم الأرقام القياسية باستمرار في الأولمبياد، ونستطيع التفكير والتأمل والاختراع والتحليل، ولكن لدينا أيضاً موهبة رائعة، وهي قراءة المستقبل!
لا تتعجب، فهذا ما سيبدو لك لو أنك صدقت كلام الناس. من يسمع كلام الكثيرين فسيظن أن معرفة المستقبل موهبة بشرية شائعة، فمثلاً لو أن حدثاً سيئاً غير متوقَع حصل فستجد أكثر من شخص يزعم أنه رأى العلامات وأنه كان يعرف أن هذا سيحصل.
هذه مغالطة «الإدراك المتأخر»، والتي فتح عليها أعيننا كتب منها «التفكير السريع والبطيء». الإدراك المتأخر هو اعتقاد المرء أنه كان يمكنه التنبؤ بشيء حصل رغم أنه لم يوجد أساس قوي يمكن الاعتماد عليه للتنبؤ بما حصل. هذه المغالطة شديدة الانتشار وهي من الأوهام التي يعتقدها الكثير من البشر. عندما يتذكر الناس قصصاً وحوادث حصلت في الماضي فإنهم يستخدمون كلمات مثل «عَلِمتُ» إذا كان في الأمر مفاجأة، فمثلاً البعض كان يقول: علمت أن الأزمة الاقتصادية كانت آتية. أو يفشل زواج فتقول إحداهن: كان لدي إحساس أنها لن تنجح. هذه الكلمات من صنع العقل ويجب أن ننظف لغتنا منها، فلا أحد «يعلم» المستقبل بنفس القطعية والثقة التي توحي بها هذه التَذكُّرات والاسترجاعات الخاطئة، فالشخص يبالغ لا شعورياً في تذكر مثل هذه الأشياء ويصنع صورة منطقية كاملة للماضي، حيث الأمارات الواضحة ثم العِلم القاطع ثم النتيجة «المعلومة».
من المشاكل التي تصنعها هذه التحيزات هي أنها تجعلنا لا نتقبل فكرة أن لتنبؤاتنا حدوداً. إذا بدا لك الماضي واضحاً كان يمكن التنبؤ به فإنك ستطبق هذا على المستقبل: يمكن التنبؤ به ولا حدود لقدراتي الاستقرائية. هذه أثبتت التجربة خطأها البالغ، أي أن قدرتنا على استقراء المستقبل لا فائدة منها، على الأقل ليس بالدقة والضمان الذي نتوقعه، وأحد من أثبتوا هذا فيليب تيتلوك العالم النفسي في جامعة بنسلفانيا، فقد نشر كتاباً عام 2005م بعنوان «بصيرة الخبراء السياسيين: ما مدى صحتها؟»، و هذا الكتاب نتيجة بحث استمر عشرين سنة، فقد قابل تيتلوك 284 خبيراً ممن تخصصوا في التعليق على الأحداث الاقتصادية والسياسية، وطلب منهم تقدير احتمالات وقوع ببعض الأحداث التي يمكن أن تقع في المستقبل القريب، تحديداً في المجال الذي تخصصوا فيه، مثل: هل سيُخلَع غورباتشوف في انقلاب؟ هل ستخوض أمريكا حرباً في الخليج العربي؟ ما هي الدولة التي ستكون محل اهتمام التجار العالميين قريباً؟ جمع تيتلوك أكثر من 80 ألف تنبؤ.
النتيجة؟ توقعات الخبراء كانت فاشلة تماماً. الذين تخصصوا في التنبؤات المستقبلية وتوقع الأحداث.. ومن صار دخلهم معتمداً على هذه الخبرة والتوقع أدّوا أداءً بشعاً، حتى أن القرود كان يمكن أن تأتي بتوقعات أفضل كما يقول العالم! حتى في المجالات التي تخصصوا فيها لم تكن تنبؤاتهم أفضل من الناس العاديين. بل إن تيتلوك يقول إن أصحاب الخبرة الأكبر هم أصحاب التنبؤات الأسوأ (!) لأنهم يصيبهم العُجب، ويغترون بخبرتهم وتُبنى توقعاتهم على أوهام وأفكار غير واقعية بسبب الثقة الزائدة.
غريبة لكن صحيحة: يمكن للخبراء توقع أشياء في المستقبل القريب بدقة أكثر من الشخص العادي، أما في المستقبل البعيد فلا، مهما أصروا!