أليس غريباً أن هناك 5 دول نفطية هي ليبيا والعراق ونيجيريا وسوريا وإيران، عاجزة عن إمداد الأسواق العالمية بالنفط بسبب ما تعانيه من اضطرابات داخلية، وما تعانيه إيران من عقوبات اقتصادية، ثم يشهد سوق النفط أكبر انخفاض بسعر البرميل؟!
هذا ما كتبه توماس فريدمان منتصف أكتوبر الماضي، مُدَرِّجاً لفكرته بالقول: «ما أعلنته السعودية بقرارها المحافظة على حصة إنتاجها من البترول بالسوق العالمية، كان من أهم العوامل التي أدت لانخفاض أسعار البترول.. الجميع كان يتوقع خفض المملكة لإنتاجها النفطي للمحافظة على الأسعار، لكنها فاجأت الجميع بقرارها». زاعماً أنها «حرب نفط» تشنها السعودية وأمريكا ضد روسيا وإيران، ستغرق بوتين وخامنئي في خضم أزمة نفط طاحنة..
فريدمان واصل خياله الجامح معتبراً سياسة النفط السعودية من أهم عوامل سقوط الاتحاد السوفييتي، عندما قررت المملكة عام 1985، التخلي عن رقابة أسعار البترول العالمية؛ مما أدى لانخفاض أسعاره؛ حتى بلغت خسائر السوفييت حينها 20 بليون دولار بالسنة. كلام كبير ومثير كعادة فريدمان بمقالاته اللذيذة. المقالة طارت بها الركبان، وأغلبهم انساق معها مضيفاً تحليلات خيالية تناقلتها وكالات الأنباء العالمية.. آخرها وكالة الأنباء الفرنسية: «يقول محللون إن المملكة مصرة على رؤية منتجي النفط الصخري، وحتى بعض أعضاء منظمة أوبك نفسها، يعانون من انخفاض الأسعار..»
القصة الرائجة اكتملت قبل شهر كالتالي: السعودية تريد خفض أسعار النفط لتضغط سياسياً على إيران وروسيا، ولتُخرج صناعة النفط الصخري الأمريكي من المنافسة وتلقنهم درساً قاسياً؛ وبعد فترة سيُصحح السوق نفسه - هكذا بقدرة قادر - وتعود الأسعار لوضعها السابق. هذه الحبكة القصصية ينقصها ثغرة كبيرة، وهي كيف للمسؤولين السعوديين أن يضروا باقتصاد بلدهم؟ يرُد رواة الحبكة بأن السعودية ومعها دول الخليج العربية قادرة على تحمل انخفاض أسعار النفط لبضع سنوات، لأن احتياطياتها النقدية ضخمة وكفيلة بتغطية النقص.. لكن لماذا تورط السعودية نفسها بالأخذ من الاحتياطي المخصص لوقت الأزمات؟ الرواة يلوذون بالصمت، والحبكة القصصية لا تستطيع الإجابة..
كما أنها لا تستطيع الإجابة على السؤال التالي: من يضمن عودة الأسعار إلى ما كانت عليه، وألا يحدث لها ما حصل خلال الثمانينات والتسعينات من ركود؟ من هم في موقع المسؤولية لا يمكنهم المجازفة باقتصاد بلدهم على هذا النحو الساذج الذي تصيغه قصة فريدمان بحبكة غير محبوكة حتى لو كانت لفيلم تشويقي. إنما أكبر ثغرة بقصة فريدمان هي عدم وجود أدلة تفصيلية تدعمها لأنها مجرد تحليلات فكرية عامة..
على العكس، لقد أكدت السعودية بعد نحو شهر من قصة فريدمان، حين قال وزير البترول علي النعيمي: «الحديث عن حرب أسعار علامة على سوء فهم مقصود أو غير ذلك، ولا أساس له من الواقع، فنحن لا نسعى لتسييس النفط، أو التآمر ضد الآخرين، والمسألة بالنسبة لنا مسألة عرض وطلب، إنها عمل مجرد وتجارة محضة». قد يقال هذا النفي السعودي ضروري دبلوماسياً. لكن حتى وراء الكواليس يؤكد المسؤولون والخبراء بوزارة البترول السعودية ذلك بوضوح..
ذكر لي مستشار إعلامي بالوزارة - طلب عدم ذكر اسمه - أنه يتحسر على سوء الفهم بأن السعودية هي وراء خفض الأسعار، موضحاً أن المسألة اقتصادية خاضعة لما تفرضه قوة السوق (العرض والطلب). فحتى أكثر الدول تضرراً من انخفاض الأسعار وهي فنزويلا تنازلت عن طلبها لخفض الإنتاج لأنها اقتنعت أن النقص سيتم تغطيته من دول خارج الأوبك ومن السوق السوداء، وسيؤدي إلى خسارة دول أوبك لجزء من حصتها بالسوق لصالح منافسين آخرين؛ فطبيعة السوق تغيرت عما كانت عليه بالثمانينات والتسعينات، حين كان خفض الإنتاج عبر الأوبك يؤدي مباشرة لرفع الأسعار..
في حوار مع «سبق»، أوضح الدكتور محمد صبان، الخبير النفطي وكبير المستشارين الاقتصاديين السابق لوزير البترول، أن قصة ربط انخفاض البترول بلعبة سياسية هي من اختراع توماس فريدمان.. فما تشهده أسواق النفط العالمية هو بداية لدورة اقتصادية جديدة لسلعة النفط، تتسم بانخفاض الأسعار لسنوات قادمة؛ حتى مع محاولات الأوبك لتخفيضات متتابعة بالإنتاج، وقد يكون سعر مائة دولار وأكثر للبرميل شيئاً من الماضي.. وعلى المعنيين بالأمر أن يقدّروا سعر البرميل العام المقبل ما بين 50-60 دولاراً للبرميل، وبافتراض إنتاجنا اليومي بحدود تسعة ملايين برميل يومياً..
ما الذي جعل فكرة فريدمان رائجة رغم أنه ليس اقتصادياً، بينما آراء خبراء النفط أقل انتشاراً؟ لأن فريدمان وضعها بقالب قصة سياسية مثيرة بينما تحليل الواقع الحالي لسوق النفط يتناول إحصاءات اقتصادية مملة لا ينفع معها القالب القصصي. فريدمان ماهر بصياغة المقال الصحفي عبر إثارة هلع أو فرح للقارئ أو أقصوصة وشخصنة: بوتين، خامنئي، بوش، أوباما، الملك عبد الله، ميركل، كاميرون.. ذاكراً مقابلته لأحد الزعماء بعبارة مغرية لا تستطيع مقاومتها: «قال لي الزعيم الفلاني..».
تقول نظرية الذهن إن العقل البشري لتفسير الأحداث يبدأ عادة باستخدام القصص قبل أن يبدأ بالتفكير المنظم أو العلمي؛ لذا الأساطير ظهرت قبل الفلسفة والعلم. حتى أحداث التاريخ الكبرى كثيراً ما نسردها بقصة، مثلاً الحرب العالمية الأولى سببها اغتيال ولي عهد النمسا وزوجته على يد طالب صربي أثناء زيارتهما لسراييفو عام 1914.. قصة مثيرة جذابة ومريحة للتلقي مقابل تحليل مادي ممل منهك للأسباب الحقيقية المعقدة للحرب كصراع القوى العظمى وتحالفاتها أثناء التوسع الاستعماري. يطلق على هذا بعلم الاجتماع النفسي «تحيز القصة» وانحرافه عن تفاصيل واقع الأمر وخلفياته، جامعة ما لا يجتمع في نسيج قصصي جذاب، كما فعل فريدمان، ناسجاً الأحداث بقصة سياسية سلسة رغم التعقيدات الاقتصادية.
الخلاصة: المسألة اقتصادية بحتة، فأوبك لم تخفض إنتاجها النفطي لأنه لن يرفع سعره بسبب الفائض خارج الأوبك، بل ستخسر دول أوبك جزءاً من حصتها بالسوق العالمي لو خفضت إنتاجها. بينما السيد فريدمان صاغ قصة سياسية مغرية فبطلتها السعودية، وانساق معها أغلب المحللين، لكنهم يتناقصون تدريجياً، وقريباً لن يبقى منهم أحد لأن الوقائع التفصيلية تنجلي رويداً رويداً وتُبرئ النفط السعودي من تهمة يظنها بعض السعوديين مفخرة على قولة المثل: «صيت غنى ولا صيت فقر!».