«لدي سلاح سري.. استخدم جهازي كمبيوتر: واحد لتصفح الإنترنت، والحصول على الإيميل ودفع الضرائب، والآخر جهاز على نظام DOS [هل تذكرونه؟] غير متصل بالإنترنت، للكتابة فقط هذا ما كشف عنه جورج مارتين الروائي الأمريكي المشهور.
هل يمكن أن تلومه؟ تتساءل صحيفة الجاردين.. فالإنترنت يشكل حالة تشتيت لأي شخص يعمل، ولكنه يشتت أكثر الكاتب لما يحتاجه الإبداع من تركيز. فكيف يتواصل الكاتب الغربي مع الجمهور؟ بعضهم ساير التيار في مواقع التواصل الاجتماعي، دون أن يستطيع منافسة نجومها الشعبويين، وبعضهم تجنبها باعتبارها تمثل مواقع قلق لكاتب مهجوس بالنص كما يقول إمبرتو إيكو (الروائي والمفكر الإيطالي)، بينما بعضهم ناصب العداء لكل ما يمت بصلة لـ»فيسبوك» و»تويتر»، لأنهما يعجان بالهراء والسخف حسبما يرى الروائي الألماني غونتر غراس (نذير الماجد).
لكن لا يبدو أن الظاهرة تعير اهتمامًا لهؤلاء المبدعين، فهي ماضية بطريقها دون هوادة مستعمرة الثقافة الشعبوية وكافة أشكال التعبير السابقة بوسائل مبتكرة لغاياتها؛ ورسائلها التي يبدو أنها فعالة، مما أدى إلى تفكيك مفهوم المثقف المستقل كصاحب رسالة ومفكر أو فنان مبدع، كما تستنتج آخر الدراسات عن مستقبل المثقفين (ماريا بيريز).
ثمة سياق عولمي جارف قائم على مبدأ الربحية.. وهو مبدأ طبيعي، لكنه بمعناه الاقتصادي الضيق يحول كل منتج ثقافي إلى بضاعة عبر شروط الإعلان التجاري. هذا المبدأ بسيط جدًا: «تريد أن تربح، اجذب الانتباه الشعبوي»، لأنها ستجلب الإعلان الممول للعمل الثقافي الذي سيضمر بلا تمويل الشركات الرأسمالية. فمن يقاوم إغراءات المال والنجومية التي تتطلب التنازل عن الجدارة مقابل الربح.. وعن التميز مقابل النمطية.. وفي الأخير سحق الفردية المبدعة..؟
فكيف هي حال المشهد السعودي في ظل تلك التحولات الحادة، هل هي خاضعة لقانون العرض والطلب؟ أحيانًا تلاحظ أن المثقف يلهث وراء طلب المتلقي مستجيبًا لرغباته، وأحيانًا تلاحظ العكس فالمثقف يتلاعب بالمتلقي عبر أوتار مؤثرة: دينية، معيشية، شتائم الآخرين، آراء غريبة وفتاوى شاذة.. كلها مثيرة للمتابعة.. لكن لو رصدت عدد الملاحظات ستجد أن الطلب الآن يفرض العرض.
الأحداث متسارعة وضخمة في منطقتنا التي تمر على مفترق طرق تاريخيًا، والإنترنت يرصدها لنا لحظة بلحظة ولا نعرف مدى مصداقيتها.. وحتى لو لم تكن ثمة أحداث كبرى فالإنترنت والفضائيات تمطر علينا حالات مثيرة لا تنتهي.. الجمهور منهك من متابعة الأخبار ومشتت الذهن، يحتاج للتعليق والتحليل كي يلتقط أنفاسه أمام اللهاث اليومي وراء الأحداث محاولاً عبثًا استيعاب ما يجري.
هذه فرصة عظيمة للمقالات التي زاد الطلب عليها، لكنك ستجد أن أغلب المتابع منها هو الارتجالي الصاخب والقصير. ففي تلك الأجواء من التقلبات اليومية يبدو أن المتابع (الطلب) غير قادر على التركيز إلا على الصاخب والسريع، فيفرض طريقة الكتابة (العرض). هنا تفتقر المقالات للموضوعية فقيمتها ترويحية وتسلية للمتلقي تشبه الاستعراضات باستراحة بين الشوطين في مباراة كرة قدم، هي جزء من أجواء المباراة لكن لا أحد يأخذها على محمل الجد فضلاً عن أنها لا تؤثر في أحداث المباراة..
لتلبية الطلبات لم يعد الارتجال وحده كافيًا فصار المثقف يلهث وراء شد انتباه الجمهور سواء بمسايرته أو بصدمه (خالف تعرف). وفي ذلك يقدم وجبات سريعة يبدأها بمعلومة انتقائية حادة ويردفها بجملة أكثر حدة لينتج تفسيرات بهلوانية مستعجلة أو توقعات لا يحدث أي شيء منها إلا القليل صدفة.. ولا أحد يحاسبه، فلا وقت للجمهور لمحاسبة أي كاتب في ظل هذا الزخم، فكيف إذا كان يقوم بدور المسلي أو المهرج البهلوان.. فمن يحاسب المهرج إلا ربما الجهات الرسمية حين تستشعر خطره؟
تجد كتابًا ومحللين وخبراء أفذاذًا فضلاً عن دعاة ومشايخ، تحولوا إلى نجوم إثارة.. كثير منهم يقول لك شيئًا هذا الأسبوع وشيئًا آخر مختلف أو نقيضه في الأسبوع الذي يليه. تجده يقول: إن النظام الفلاني سيسقط لا محالة خلال أشهر، وبعد بضعة أسابيع يقول لك: إن ذلك النظام مقبل على تغيرات شاملة، وفي الأسبوع التالي يقطع لك بأنه باقٍ.. أي كافة الاحتمالات، وبالتأكيد سيقع أحدها، وعندها يكتب أحد مؤيديه: هذا ما توقعه فلان الجهبذ، واضعًا صورة تنبئه العظيم!
لقد بدأ يتلاشى دور المثقف المبدع الذي عهدناه، فثمة إعلام مبدعوه في الفكر والثقافة والأدب والنقد بالكاد نتذكرهم الآن، بالرغم من أنهم ما زالوا ينتجون. بعض هؤلاء طواه النسيان، وبعضهم سايروا مواقع التواصل بلعبة الطلب. طبعًا هناك من يراهن على طريق ثالث وعر بين الإبداع والجماهيرية في الإنترنت أو الفضائيات.. لكنه حتى الآن لا يشكل جزءًا مؤثرًا في المشهد.
خذ على سبيل المثال لا الحصر، النقاد الكبار الذين لا يزالون ينتجون كتبًا ثرية لا يكاد أحد يتصفحها كسعد البازعي وعبد الله الغذامي وسعد الصويان وسعيد السريحي، فضلاً عن أسماء جديدة فذة، لكن أغلب الجمهور لا يعرف منهم إلا أصحاب المقالات خصوصًا المشاركين في مواقع التواصل الاجتماعي. ويبدو أن المقالات الصحفية هي ما تبقى للمثقف يقدم فيها رسالته.. لذا أكثر ما يعرف الروائيون المبدعون أمثال بدرية البشر وأميمة الخميس وسعد الدوسري ويوسف المحيميد عبر مقالاتهم، فيما لا يكاد أحد يعرف شيئًا عن أعمال رجاء عالم بالرغم من أنها أكبر روائية سعودية.
مثل المثقف طوال القرن العشرين النخبة المفكرة لتطلعات الشعوب نحو الأفضل عبر المؤسسات الرأسية (رسمية أو مدنية أو شعبية) من خلال الجدارة وجودة المنتج الثقافي. الآن يتوالد عدد لا متناه من المؤسسات الأفقية في الإنترنت حتى تشظت مؤسسات المجتمع المدني. وبالرغم من أنه تظهر بين فينة وأخرى مواقع ثقافية جادة لكنها تفتقر للاستمرارية لأنها تفتقر لتمويل الإعلان التجاري الذي يأتي مع الشعبوية..
صارت المهارة في كسب الشعبية أقوى تأثيرًا من الجودة، وأصبحت القدرة على جذب الإعلان التجاري هي الفيصل.. وإذا كان هذا مبدأً طبيعيًا، فثمة مبدأ معنوي (كما يسميه المفكر الفرنسي الآن تورين) يواجهه عبر الوعي بإنسانيتنا التي تمتلك كيانًا وجوديًا متميزًا عن البضاعة، فالإنسان ليس مجرد كيان اقتصادي تحدده شروط الإعلان التجاري.. المواجهة بين المبدأ الطبيعي والمعنوي في بدايتها.. فمن ينجح؟