عندما أعلنت وزارة الداخلية قبل نحو ثلاثة أشهر عن القبض على 88 شخصاً من المطلوبين أمنياً، بينهم ممن التحقوا ببرنامج المناصحة، سارع البعض إلى أن هؤلاء لا ينفع معهم إلا «السيف الأملح»، فيما تساءل آخرون عن جدوى البرنامج.
بالمقابل، هناك من يرى أن البرنامج ناجح بكل المقاييس ولا يستدعي أية مراجعة.. إنما عندما ظهرت أسماء المتورطين في تنفيذ جريمة «الدالوة» الذين قبض عليهم جميعاً، وبينهم عدد غير قليل ممن انخرطوا ببرنامج المناصحة، فقد طفح الكيل، حتى أن وزارة الداخلية نفسها أعربت عبر متحدثها الرسمي اللواء منصور التركي بأنها ستدرس دوافع انتكاس بعض المناصحين وعودتهم إلى التطرف.
من المفيد التمييز بين النقد التنظيري المبني على ملاحظات عامة مع أفكار جاهزة ونظريات مسبقة تحدد مسار النشاطات قبل وقوعها، وبين نتائج الدراسات المنهجية التي تحلل تفاصيل الواقع بشكل منظم أو التقارير التي تصف واقع الحال بحيادية، حتى لا نكون انفعاليين وإلا نقيِّم البرنامج من خلال حادثة أو حادثتين. فكيف نحكم على البرنامج؟
مضت ثماني سنوات منذ نشأة برنامج المناصحة (مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية)، وكان عدد المستفيدين منه بالسنوات الأربع الأولى بضع عشرات لكل سنة (من 25 إلى 67 مستفيداً).. نال البرنامج خلالها إشادة داخلية وخارجية، تخللها بعض النقد محلياً وخارجياً كلما ظهرت أسماء مطلوبين أمنياً ممن التحقوا بهذا البرنامج. ولعله من المناسب طرح خلاصة التحليل الخارجي لأنها غير معنية بالخلافات الفكرية الداخلية.
الصحفي في مجلة تايم الأمريكية سكوت ماكليود، الذي زار المركز في خريف 2007، أشاد به ذاكراً أنه يشبه حرم جامعي، حيث يلعب المحتجزون تنس الطاولة ويرتشفون البيبسي. «هذا الإدعاء تهاوى حين عاد بعضهم للجهاد عام 2009»، حسبما كتب بوبي جوش في مقدمة تقريره بعدما زار المركز، الذي قال عنه: أنه يُوصف رومانسياً كأنه مركز بتي فورد (مركز متقدم لتأهيل مدمني الكحول والمخدرات)، وتساءل مشككاً: هل يمكن إعادة تأهيل الجهاديين؟ فرد عليه اللواء منصور التركي: «مع البعض، ليس هناك أي علاج.. نعتقد أنه يمكن به تحويل هؤلاء الناس إلى بشر طبيعيين وإعادة دمجهم في داخل المجتمع..» (مجلة تايم، 2009).
في تلك السنة أوضح كرستوفر بوك، الباحث الذي درس برنامج المناصحة لسنوات أن: «هذه الأشياء لا يمكن أن تكون كاملة، ولكن عندما ننظر للصورة العامة للتأهيل، نجدها قصة رائعة». وذكر أيضاً: الموضوع الآخر الذي يتطلب إعادة اختبار هو تقييم المخاطرة في العودة للجريمة. هناك العديد من الأبحاث في هذا المجال، مثلاً، متى يتم إطلاق الأحداث من السجن، ولكن لا توجد أية دراسة على الإرهابيين، متى يطلقون من مركز التأهيل. كما أكد بوك في أحدى دراسته أن برنامج المناصحة نال إعجاب دول كبرى في مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا التي اهتمت بالإستراتيجيات السعودية لمحاربة التطرف والفكر التكفيري الذي وجد في الإنترنت مرتعاً خصباً للاستشراء وإغواء الشبان وتضليلهم.
كلّ هذا كان قبل 2011.. مضت السنين وزاد عدد الملتحقين بالبرنامج إلى 374 عام 1432 هـ (2011م) ثم قفز إلى 1411 شخصاً عام 1433هـ، فعاد هابطاً إلى 688 سنة 1434هـ. وبالمناسبة، في تلك السنة ذكر وزير العدل الأميركي إريك هولدر (2013): «إنه ينوي نقل برنامج المناصحة الذي تعمل به المملكة مع أصحاب الفكر المتشدد إلى الولايات المتحدة. وفي السنة الأخيرة هبط عدد المستفيدين من البرنامج إلى 140 مستفيدا (1435هـ).
ما هي المحصلة النهائية بالأرقام؟.. الإحصاءات قبل جريمة الدالوة توضح أن عدد المستفيدين من البرنامج بلغ 2791 شخصاً، عاد منهم إلى الإرهاب 334، أي 12 % من إجمالي العدد. ومن هنا أوضح اللواء التركي الأسبوع الماضي أن: «مهمتنا أن نبحث ونستطلع الأسباب التي جعلت 12 في المائة يعودون وينتكسون، وينضمون إلى هذه الجماعات الإرهابية والفكر الضال، وسنستفيد من النتائج، وسنحاول تقليل الأعداد التي يمكن أن تعود».
يمكن أن نخلص من كل ما تقدم أنه ينبغي التريث بالحكم أن المركز أخفق وينبغي إلغاؤه استناداً على فشل نسبي. أما مناداة البعض باستبدال المناصحة بالعصا الغليظة فينسى أن العقوبات على المدانين تُطبَّق بصرامة، وأن البرنامج فكرته وقائية أكثر منها علاجية. لكن من حق المنزعجين أن يطرحوا شكوكهم، فعودة ما نسبته 12% إلى الإرهاب ليست نسبة قليلة، وتستدعي دراسة جادة لأسبابها وإجراء التعديلات اللازمة في مركز المناصحة.
من الأسباب التي تؤخذ بالاعتبار هي غليان المرحلة وما تشهده من حروب أهلية وفتنة طائفية في بعض البلدان المجاورة خاصة العراق وسوريا. ففي عام 2011 كانت الأجواء توحي بأن الحركات الإرهابية تحتضر حين تقلصت لحد كبير. أما الآن مع حالة الاحتقان بالمنطقة فقد تنامت مواقع الإنترنت والدعاة المتشددون الذين يغررون بشباب مراهقين يعانون أزمات نفسية وإجتماعية. من هنا تنبغي مراجعة طرق التوجيه والنشاط في المركز من ناحية جانبها النفسي والتربوي، وليس التركيز على الجانب الشرعي، فمشكلة هؤلاء الشباب مع النصوص الشرعية هو في طريقة تفسيرها وليس في تفسيرها فقط. تعديل طريقة التفسير تتطلب تعديل طريقة التفكير التي بدورها تتطلب تهيئة نفسية وتربوية.
من أهم الإجراءات التي تحتاج مراجعة هي طريقة متابعة الذين يتم إطلاقهم. ليس المقصود هنا مراقبة أمنية بل متابعة اجتماعية داخل المجتمع عبر تفعيل برنامج الرعاية اللاحقة كخدمات التوظيف وتحسين الظروف المعيشية والاجتماعية والمتابعة مع الأسر، والتكيف والإندماج مع المجتمع.. فهؤلاء ضحايا سُذَّج كما هم جناة.
مركز المناصحة تجربة إنسانية فريدة من نوعها لم يسبق أن جربت من قبل في أي بلد، تستحق الصبر عليها بحكم جدتها. فهي تضم برامج عديدة تعليمية وتدريبية وتثقيفية وخدمات متنوعة وبرنامج رعاية لاحقة.. في حين يظنها كثيرون مجرد برنامج مناقشة توعوية ومركز ترفيهي.. لذا ينصب تركيزهم على بعض المشايخ الأفاضل الذين يناصحونهم بزعم أن بعضهم من نفس العقلية، فلا اختلاف في الأفكار ولا في تفسيرها، بل اختلاف في مرحلة تطبيق هذه الأفكار على الواقع.. التركيز فقط على العصا الغليظة وقسوة العقوبات يجدي في جز الظاهر من العنف لكنه لن يقتلعه من جذوره.