حظي خبر مقتل ملكة جمال هندوراس بتغطية إعلامية هائلة، متصدراً الأخبار، وحاز أعلى نسبة قراءة حتى في مواقع عالمية مثل بي بي سي، وسي إن إن، بينما آلاف القتلى لم يحظوا بعُشر هذه التغطية. لماذا؟
لأن خبر ملكة الجمال مع صورة كيس جثتها يوحي بقصة ساخنة مثيرة، بينما أخبار القتلى الآخرين في ذات اليوم يحوى أرقاما لا نراها. الخبر الأول أكثر إثارة لعواطفنا من الثاني حسب نظرية الذهن، رغم أن الخبر الثاني أهم كثيراً حسب نظرية المعلومات.
لنحو 19 عاماً كان الإعلام الأمريكي ممنوعاً من تصوير نعوش جنوده القتلى. وفي عام 2009 ألغى وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس هذا المنع بسبب انتشار الصور في الإنترنت، مع شرط موافقة عوائل الجنود (شرط بلا قيمة في الواقع). لماذا كان المنع من الأساس رغم أن أرقام القتلى منشورة ومتوافرة؟ بسبب التأثير السلبي للحرب، فالأرقام والإحصاءات باردة، بينما الصور خاصة الموتى تحفز عواطفنا وتثير خيالاتنا وأفكارنا في كيفية شعور الآخرين. إنها مرة أخرى نظرية الذهن..
لذا تقوم داعش بتصوير تفاصيل أعمالها الوحشية مدركة هذا التأثير وما يثيره من رعب وخيالات مفزعة، بينما الطائرات الأمريكية لا تظهر أي صور تفصيلية لنتائج ضرباتها، بل تظهرها من بعيد كصور غامضة كأنها توحي لنا أنها بلا تكلفة بشرية.. حتى الطائرات صارت بلا طيار.. ورغم أننا ندرك عقلياً أن ثمة ضحايا إلا أننا لا نراهم، فالأشياء التي لا نراها قد تعتبرها أذهاننا غير موجودة، إلا إذا كان هناك قصة يحكيها الإعلام.
الروائي الإنجليزي فورستر وضع أقصوصتين: الأولى تقول إن «الملك مات، والملكة ماتت»؛ أما الثانية فتقول: «الملك مات، والملكة ماتت حزناً عليه». ما الذي يبقى في الذاكرة؟ طبعاً الثانية. وفقاً لنظرية المعلومات فإن الأولى أفضل لأنها أقصر ومن ثم أكثر قابلية للتذكر، لكن نظرية الذهن تقول إن الثانية هي ما يبقى في الذاكرة لأنها وضعت ربطاً عاطفيا بين الميتين.
حتى أحداث التاريخ الكبرى كثيراً ما نسردها من خلال قصة.. كيف بدأت الحرب العالمية الأولى؟ بسبب اغتيال ولي عهد النمسا الأرشيدوق فرانز فرديناند مع زوجته من قبل طالب صربي يدعى غافريلو برينسيب أثناء زيارتهما لسراييفو في 28 يونيو 1914. قصة تبسيطية لكنها مثيرة أكثر من التحليل الممل للأسباب التي وراء الحرب كسلسة صراع القوى العظمى وتحالفاتها مع التوسع الاستعماري.. أما الحرب العالمية الثانية فسببها عنجهية هتلر عندما اجتاحت قواته بولندا.. هكذا تختصرها القصة.. بينما التحليل الممل يقول إنها ضمن سلسلة من التحالفات والمعاهدات المتناقضة التي خلفتها الحرب العالمية الأولى وتضررت منها ألمانيا كثيراً..
نحن ننسج عقد التفاصيل عبر قصة مرتبة واضحة رغم كافة العقد المتشابكة. نريد حياتنا أن تتشكل عبر نموذج يمكن فهمه واتباعه.. يقول الروائي ماكس فريش: «ننسج القصص كما ننسج الملابس». يطلق على هذا «تحيز القصة» (Story Bias) وانحرافه عن واقع الأمر وتفاصيله وخلفياته (رولف دوبليه).
القصة تحرِّف الوقائع وتجمع ما لا يجتمع في نسيج جذاب. ورغم إدراكنا لانحرافها عن الواقع فإننا لا نستطيع أن نفكر بدونها، حتى وهي تؤثر في جودة الأحكام والقرارات التي نتخذها. فالعقل البشري - حسب نظرية الذهن - يبدأ عادة باستخدام القصص لتفسير الأحداث والعالم والأشياء من حولنا قبل أن يبدأ في التفكير العلمي أو المنظم. لذا الأساطير بدأت قبل الفلسفة والعلم.
الصور تشكل قصة وعلاقة مع الآخرين، بينما الأرقام جافة. في تجربة نفسية (جو هنرك) على مجموعة أعطى كل فرد مئة دولار، وقيل لكل واحد أن يشاركها ويقتسمها مع شخص آخر بالطريقة التي يراها من دولار واحد إلى تسعة وتسعين دولاراً، بشرط أن يوافق ذلك الشخص. القسمة للشخص الآخر تراوحت من 30 إلى 50 دولاراً عندما كان الشخص الآخر يُرى، لكن عندما صار الشخص الآخر لا يُرى هبطت القسمة إلى 20 دولار. الشخص الذي لا نراه يصبح كيانا مجردا وغائبا عن الذهن، بينما نتأثر عاطفياً مع الأشخاص الذين نراهم.
في تجربة أخرى قام عالم النفس بول سلوفك بطلب التبرع من مجموعتين؛ الأولى مع صورة لطفل نحيل تنزف عينيه دماً من مالاوي، والمجموعة الثانية مع نشرة إحصائية عن المجاعة في مالاوي متضمنة أن هناك ثلاثة ملايين طفل مالاوي يعانون من المجاعة. معدل التبرع في الأولى كان 2.83 دولار، بينما المعدل في الثانية هبط إلى النصف. حسب نظرية المعلومات فإن الثانية تعطي حجم المجاعة في المالاوي بينما الأولى صورة لفرد واحد ولا تعكس حجم المأساة، لكن حسب نظرية الذهن فإن صور الأشخاص تثير مشاعرنا أكثر من الأرقام.
الإعلام يدرك أن الحقائق التقريرية والإحصاءات لا تغري القراء مثلما تفعل قصص حول هذه الحقائق مع الصور حتى بدون أرقام. الإعلانات التجارية تدرك ذلك أيضا، لذا كثيرا ما تضع قصة لا علاقة لها بالمنتج أو أنها مجرد تدور حوله دون وضع مواصفاته. ذلك بسبب تأثيرها الإقناعي، مما جعل أغلب الإعلانات التجارية لا تركز على جودة البضاعة (الإقناع العقلي المباشر الذي يُنسى) قدر ما تركز على ما يبقى بذاكرة المتلقي وإن كان لا علاقة لها بموضوع الإعلان، عبر: لقطة قصصية مؤثرة، صدمة شكلية، جمال باهر، منظر جنسي.. (الإقناع الذي يبقى في الذاكرة) ومن هنا يقول إيرك هوفر: «الدعاية لا تخدع الناس: إنها فقط تساعدهم كي يخدعوا أنفسهم».
من قتل ملكة جمال هندوراس «ماريا خوسيه الفريدو» وأختها؟ وكيف حدث ذلك؟ وما هو تأثيره؟ قصة محزنة مؤثرة سيطرت على عناوين الأخبار.. حتى وضعت عناوين في هندوراس من قبيل «ضياع حلم هندوراس..» .. يقول صاحبي: من لا يتأثر بهذه القصة ليس له قلب، ومن يتأثر كثيراً ليس له عقل! فصرت في حيرة ما بين القلب والعقل، وتذكرت أغنية عبد الله محمد:
ألا يا قلب كما أنهاك بأنك لا تميل
أجاب القلب ليه عينك تنظر للجميل؟
أنا محتار ما بين اثنين
ما بين القلب وبين العين