منذ أن ابتدأ غازي عبدالرحمن القصيبي عمره الثاني الطويل المكتمل بوجهه الذي زرعه في أجيال ومجالات.. وأذكار وذكريات وهو ينمو ويزداد كبراً واكتمالاً.. كما لو كان متلهفاً لعمره الثاني الذي أطعمه رحيق عمره الأول وطناً وأرضاً وهوية وشعراً وجمالاً.
كأنه حين اختار قيثارة المتنبي كان يدون ما سيغني به في رحلة العمر القادم:
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته
ما قاته وفضول العيش إشغال
وهنا يستطيل التأمل: هل كان التقاء روحيهما - القصيبي والمتنبي - ترفاً جمالياً يملأ الدنيا ويشغل الناس؟ أم أنهما كانا يكملان سلالة جينات إنسان التفرد والاختلاف في هذه الأرض؟
أنهى الاستثناء عمره الأول كما لو أنه خُلق لكل شيء إلا القبح!! ليغادر هذا الفناء مزهواً بالبياض وبالعلو.. ومحفوفاً بالناس وبالدنيا التي عرفته مترفعاً مرتفعاً.. فلم يهو مثلما تهاوى آخرون من قبل ومن بعد.
حين ولد عمر الاستثناء الثاني في سيد الشهور قبل أعوام - يرحمه الله - احتفت به المآقي كما لو تحتف بوليد كبير كبير من قبل.. ذهبت معه إلى بيته الجديد لكنها عادت له بعمر جديد؛ متجدد متعدد متفرد.
تُرى هل هذا الفقيد الوليد يقضي عمره الثاني يتيماً هناك مثلما كان يتيماً هنا؟ أم أنه - ابن كل النساء اللواتي عرفنه(1)؟ هل وجد التمر الأحسائي الذي أحبه؟ هل رأى البحرين؟ هل لا يزال شاعراً يكتب الجمال فيُقذف بمعاداة الإسلام؟
كتب الاستثناء في عمره الممتد بالزميلة (الشرق الأوسط) في عين العاصفة.. فكان عرافاً يقرأ كف السياسة ويعد كفنها الذي شيعت به إلى مثواها الأخير.. وكم نود وما ينفع الود - لو أن لنا (في عين الربيع) لعله يتهجأ حرف عمره الأول.. فيكتبها هناك لنبصر ربيع ما يتوهمون هنا!!
في حديقة غروبه التي أعادت الشعر للشعر.. قال الاستثناء الكثير دون أن يقول شيئاً.. رحل صامتاً شامخاً ليهيئ الاستماع كاملاً في عمره الثاني لما لم يقله.. وماذا لو تنفس الجرح ذات ليل معجون بأوجاع الذكريات والمواقف وهبّت ريح الحكايا؟! يسكتنا الاستثناء ويقول:
وإن مضيت.. فقولي: لم يكن بطلاً
لكنه لم يقبّل جبهة العار
كان كريماً شهماً وهو يؤبن أصدقاءه الذين سبقوه واستبقوه.. وكأنه واجب يؤديه تجاههم لكيلا يلام حين يقابلهم في عمره الثاني.. بل وكأنهم يرحلون بجزء من عمره حين يسافرون إلى أعمارهم الثانية عبر الموت.. فينزف:
يموت قليلاً من يموت صديقه
وإن كان يبدو الشامخ الصامد الصلبا
في حكاية ترشحه لرئاسة اليونسكو 1999م ينمو موت كامل مستقل في جسد الاستثناء غازي القصيبي - وأحسب أنه انتقل لينمو معه في عمره الثاني - إنها هزيمة الثقافة العربية التي لا يحملها ولا يحلم بإزاحتها إلا الاستثنائيون.. كم خذلناك أيها الجبل.. وأنت الذي في عروق الثرى نخلة لا تموت(2).
وقبل أن يستهل الاستثناء عمره الثاني.. بل والمرض يؤثث مؤنة السفر من جسده الذي ارتوت منه المطارات والصداقات واللقاءات والأحلام والعداوات.. طبع ثلاث قبلات على جبين المعرفة والنور.. بثلاثة كتب من فوق فراش الرحمة والعلة.. أو قل: استقبل عمره الثاني وبين يديه مشروع إصدار تفسير القرآن الكريم.. لقد سمع فوعى قول المصطفى عليه أفضل صلاة وأتم تسليم: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها)، أين أعداء النور من عشر هذا العطاء الحي!!
ذكر الفتى عمره الثاني.. ولغازي القصيبي أعمار كثيرة عاشها هنا ولا تزال.. الاستثنائيون وحدهم بعمرين!!
** ** **
(1) عبدالله الصيخان، من قصيدة فاطمة (بتصرف).
(2) محمد الثبيتي، من قصيدة تحية لسيد البيد.
* سكرتير التحرير الثقافي والمحاضر بكلية الإعلام والاتصال بجامعة الإمام