من يتابع مسيرة التعليم في بلادنا والخطوات الكبيرة التي خطاها وحجم العمليات والأشخاص الداخلين فيه، فسيعرف أن مهمة وزير التربية والتعليم هي أثقل وأصعب مهنة على الإطلاق. لديك أكثر من خمسة ملايين طالب وأكثر من نصف مليون معلم وقريب من هذا الرقم هم الإداريون،
وهكذا ماكينة هائلة تطحن من يدخل فيها دون رحمة.. لكن في النهاية هي مهمة لا غنى عنها لأي مجتمع حديث، وهي مهمة تمكنت الأمم المتقدمة أن تثبت أنه من خلال تجويدها وضبط مدخلاتها تعيش الأمم أو تموت. لدينا عدد من المؤشرات الممتازة لتعليمنا والتي نشرتها اليونسكو: مثلاً أن نسبة الالتحاق بالتعليم الابتدائي لكلا الجنسين تجاوز 97%، وهذه نسبة مشجعة جداً، حين نعرف مثلاً أن هذه النسبة في بلد عظيم، ولكنه سيئ الحظ مثل إلى من لا تتجاوز 24%، كما أننا حققنا نسبة ممتازة في القضاء على أمية الكبار بلغت 87.2% لكن لا زال معظمنا يشعر بالغصة حين نفكر بالتعليم الذي يتعرض له أطفالنا كل يوم.. وأنا متأكدة أن كل أم وكل أب يقلب في كل يوم خياراته المحدودة وسؤاله: أين يضع أبنائي؟ أين أجد تعليماً جيداً، وفي ذات الوقت يقدم تعليماً متوازناً يوفر المعرفة العلمية والدينية واللغوية التي يحتاجها أطفالنا؟
سأضع بعضاً من المقترحات التي يتسع لها حيز الكتابة هنا، والتي أتصور أنها تحتاج إلى عناية خاصة تساعد على دفعة عجلة هذا التعليم ومنها:
- العناية ببرامج إعداد المعلمين وغربلتها من جوهرها بدءاً بمناهج هذه الكليات وانتهاءً بطرق تدريب طلابها.. ومن المقترحات الجوهرية التي أرى أن كليات إعداد المعلمين غفلت عنها تماماً، هي تدريس المواد التي تؤكد على عظم التجربة والتاريخ الإنساني، فحين يدرس المعلم ما حدث من صراعات دينية في إيرلندا وكيف استطاعت أن تحل ذلك سيتعلم من هذا التاريخ. حين يتعلم المعلم كيف ازدهرت الحضارة المصرية القديمة، سيعرف كم كان عقل الإنسان مهماً حتى قبل أن نوجد نحن كأمة وحضارة.. حين يدرس الفلسفة والمنطق يستطيع أن يرى ويحكم علي الأمور من منظار العقل لا الأهواء، فيحكم على ما يرى ويقرأ في وسائل التواصل الاجتماعي بعقله وتحليله العلمي وابعاد النظرة الفلسفية المتعددة حتى يرى الصورة مكتملة، وبالمناسبة فدراسة الفلسفة مثلاً هي أهم المواد التي تدرس للمعلمين الألمان، وفكرتهم أنّ المعلم ذا النظرة العميقة والهادئة والقادر على تحليل الأمر، سيكون قادراً على تدريس الأطفال هذه المهارة. (سأخصص مقالاً خاصاً بهذا الموضوع الهام).
- العناية بالرياضة البدنية في كافة المراحل وللجميع بنين وبنات وأعضاء مدرسة بحيث تصبح المدارس وكما في كل أنحاء العالم مصنعاً للأبطال الرياضيين في مختلف الحقول، والذين سينتقلون لاحقاً ليكونوا مهنيين في هذا المجال، وهذا الأمر لا يكفيه هذه المخصصات المحدودة أو الاهتمام السطحي، إذاً فعلاً من المضحك أن يكون الأولاد الذين يحق لهم التمتع بحصة رياضة لا يحصلون إلا على حصة يتيمة في الأسبوع؟ كيف سنخلق الاهتمامات ونشغل أذهان الصغار والمراهقين عما يحيط بهم من أشرار وأفكار، وكيف يستطيعون أن يقاوموا وبالرياضة رغبات أجسادهم الجامحة في مراحل نموهم الخطرة.. كل ذلك يدعو إلى برامج هائلة في الرياضة تمتد إلى ما بعد ساعات المدرسة، وتقحم الأهل كمشرفين ومتطوعين في نجاح أبنائهم الرياضية، وتطلق المنافسات بين الأحياء والمدن والمناطق ثم البلدان، كما يحدث في كل مدارس العالم.. هناك أدبيات هائلة على الرياضة المدرسية ومجلات أكاديمية متخصصة وعالم كامل قائم بذاته، يمكن لنا الاستفادة منه لتطوير هذا الوليد المريض الذي تحتضنه المدارس السعودية الآن.
- العناية بالطلاب من ذوي الاحتياجات الخاصة، إذ من المدهش الأرقام التي عرضها مثلاً د. أبو نيان في ورقته الأخيرة لتي قدمها في المؤتمر الدولي الرابع للإعاقة والتأهيل الذي أقيم في الرياض خلال الشهر الماضي، وأوضح فيها أن 80% من مدارس المملكة لا توفر خدمات للطلاب من أصحاب صعوبات التعليم، هذا عدا عن من يعاني من صعوبات أخرى أو توحد أو فشل أكاديمي أو فقر ثقافي وبيئي أثّر على تحصيله، ويحتاج إلى من يساعده للرفع من مستواه.. الخ من الحالات الخاصة التي تمتلئ بها المدارس.
- رفع المستويات الأكاديمية للمدارس السعودية لتوازي تلك المتبعة في مدارس العالم. لن نستطيع أن نحمي طلابنا ونطبطب عليهم ونكون نحن من يطالب بتوفير فرص وظيفية لهم بعد تخرجهم. مهمة التعليم هو أن يوفر التدريب والمهارات الأكاديمية والعقلية واللغوية التي تساعد الطلاب على إنهاء دراستهم الجامعية بسلام، ثم القفز في عالم البحث عن الوظيفة أينما كانت وفي أي بلد، ولن يتحقق ذلك بدءاً بالمستوى الهزيل لمدارسنا الآن، وحتى نعرف معنى ذلك، قارن أية مدرسة عالمية ولكن غير ربحية (من تلك المعروفة على مستوى المملكة أو العالم) (وليست تلك التجارية التي يستثمر فيها التجار السعوديون ويسيئون إلى التعليم بجشعهم وماديتهم المغرقة)، وعندها سنعرف حجم الفروق الهائلة بين ما يقدم في تلك المدارس من علوم ومهارات، وبين ما يحدث في مدارسنا من تجهيل متعمّد وأمية عقلية وثقافية لا حدود لها.
- اعتماد المنهج العلمي والمواد العلمية لتحتل أكبر حيز في الجدول الدراسي للطلاب فالعلم اليوم هو ما يسيّر الأمم، إضافة للعناية كما هو سائد بالمعارف الدينية واللغوية والثقافية التي تحافظ على تاريخ الأمة وتراثها، وهذا موضوع خطير ومتشعّب سأغطيه الأسبوع القادم بإذن الله.