أدى تنامي قوة داعش وظهورها كفصيل يهدد دولاً بكاملها، ثم التكتل الدولي الأخير بين السعودية وعدد كبير من دول العالم لتفتيت قوتها على الأرض، كل ذلك أدى إلى تسليط الضوء بقوة على المملكة العربية السعودية باعتبار أن الكثير من مقاتلي داعش سعوديون،
وهو ما حصل أيضاً بعد اعتداء الحادي عشر من سبتمبر 2001 حين كان خمسة عشر من المعتدين من أصل تسعة عشر من أصل سعودي - إذا ما صحت هذه المعلومات - لهذا وضعت الصحف ونشرات الأخبار والتحليلات واللقاءات، خاصة في الولايات المتحدة، نصب عينيها المملكة كمفرخ طبيعي لهذا النوع من الفصائل المدمرة.
هذا ما يحصل الآن. في كل يوم وفي كل نشرة أخبار لا تسمع سوى صوت التحذير وأخبار داعش ومحاولاتهم لتدمير (الغرب) المتمدن ببربريتهم الموغلة في التوحش. ولن نلوم المواطن العادي هنا حين يشعر بالخوف من كل شيء ومن كل أحد، خاصة مع ما سمي بهجمات الذئب المتوحد، وهذا يصف ما قام به الكندي الذي حاول اقتحام البرلمان الكندي منذ أسبوعين، والذي لم يكن منتمياً لمجموعة مسلحة، لكنه - للأسف - مسلم، وتصرف بشكل مستقل، وهذا ما يخيف الغرب أكثر؛ إذ كيف يمكن التنبؤ بما سيحدث من هؤلاء المتوحدين؟ لكن لماذا صرنا مكروهين ومتوحشين إلى هذا الحد؟ وهل نلوم الغرب على شدته معنا فيما يخص الفيز للدراسة أو العلاج ما دام تيار الكراهية والأفكار البدائية هي ما يلمسه الناس من بعض المسلمين اليوم على أرض الشارع، في حين لا نظهر في الاختراعات العلمية أو الفنون أو الموسيقى أو التأليف أو أي حدث إبداعي يساهم في تطوير الحضارة البشرية؟
المحزن أن هناك الكثير من عمليات المراجعة الداخلية التي نقوم بها الآن داخل أوطاننا، ولا يدري عنها أحد، ولا يتكلم عنها الغرب في صحفه أو قنواته. لماذا؟؟ ببساطة لأنه لا يعرف عنها.
مثلاً، ومنذ تسلم الملك عبدالله الحكم عام 2004، بدأ بخطوات جادة وعميقة لإحداث تغيير جذري في طريقة التعليم ورؤية الأجيال الشابة لحياتها ومستقبلها. فمنذ العام 2005 بدأ أكبر مشروع تعليمي عرفته المملكة خلال تاريخها المعاصر؛ إذ تم ابتعاث مئات الآلاف من الطلاب والطالبات السعوديين من مختلف المناطق ومختلف التوجهات والطبقات؛ ويتوقع لهذا البرنامج، الذي ما زال مستمراً بذات الحيوية، ليس فقط أن يوفر يداً متعلمة تتمتع بتعليم متقدم وتنوع لغوي مطلوب في سوق العمل بل يتوقع أن يحدث تغييرات اجتماعية وثقافية جوهرية، تطول عمق المجتمع السعودي. وفي الوقت ذاته تم توفير فرص التعليم الجامعي، سواء عبر الجامعات الحكومية التي تم نشرها في المناطق حتى وصل عددها اليوم إلى 28 جامعة، كما تم فتح الباب أمام التعليم الأهلي الجامعي؛ ليتيح مزيداً من المقاعد التي تدفع كلفتها الدولة في حال لم يتمكن الطالب لسبب أو لآخر من دخول الجامعات الحكومية.
كذلك بدأت حركة ديناميكية (من الداخل والخارج) لإصلاح هيكلية التعليم من خلال تغيير قيادي، ومن خلال عمليات الغربلة والتطوير للمعلمين والإداريين والمناهج المدرسية، وبمراقبة أدق للأنشطة المدرسية؛ حتى لا يتم استغلالها من قِبل المتطرفين. وفي الوقت ذاته أولت وزارة التربية والتعليم اهتمامها الكبير لصانعي المستقبل، مع زيادة إدراكها أهمية التعليم المبكر، أي ما يسبق المرحلة الابتدائية؛ فبدأ العمل في مشروع وطني ضخم لتعميم رياض الأطفال في شتى أنحاء المملكة؛ ما يعني أن استفادة هذا الطفل من التعليم لاحقاً ستكون مضاعفة مرات عديدة؛ إذ أظهرت البحوث كافة ذات العلاقة أن هناك علاقة إيجابية بين الأطفال ممن التحقوا برياض الأطفال وأدائهم الأكاديمي لاحقاً، خاصة في مواد أساسية مثل الرياضيات واللغة؛ وهو ما حدا بوزارة التربية لإعلان مشروعها الطموح لزيادة رياض الأطفال 138 % خلال العام القادم فقط. هذا يعني عملياً افتتاح روضة ونصف الروضة كل يوم خلال السنة القادمة.
هناك أيضاً عناية خاصة قدمتها الدولة لنوعية التعليم المقدم في كل المستويات، من خلال العناية بنشر مفاهيم الجودة، والاعتماد الأكاديمي لنفض غبار المؤسسات من الداخل، وغير ذلك كثير وكثير مما تفعله الدولة ممثلة بمؤسساتها المختلفة، مثل تطوير قطاع القضاء، ومحاولة نشر مفاهيم النزاهة والمحاسبة، وتنويع سوق العمل والوظائف للسعوديين والسعوديات، وفتح مراكز حوار الأديان لفتح العين المسلمة على العالم، وتعريف العالم بها.
لكن رغم ذلك لماذا تظل نغمة لوم السعودية (على قلة) ما تفعله هي نغمة ثابتة في كل الإعلام الأمريكي، وإلى حد كبير الأوروبي؟
ببساطة، لأننا لا نصل بصوتنا إلى حرم إعلامهم، وشئنا أم أبينا فقد تخبطنا كثيراً، وأساء نظامنا التعليمي بمخرجاته لفكرة السلام والأمن في العالم، وعلينا أن نكون واقعيين في كيفية إظهار وجهنا الحقيقي الآخر لهذا العالم.
علينا أن نتحدث بمنطقه، ونفهم لغته، ونرد عليه، ليس لنُرضي من بالداخل من متشددين ومستفيدين، لكن لنوضح لهذا الغرب وبمصداقية شديدة ماذا نفعل من عمليات المتابعة والمراجعة الداخلية التي تتعرض لها كل أجهزتنا الداخلية، في محاولة لحل معادلة التطرف والإرهاب، مع استمرارنا في إرغام المؤسسات التعليمية بالذات (وهي التي تصل إلى الملايين كل يوم) على تقديم الاعتدال في طرحها بدلاً من التوحد والتطرف، وعلى ضرورة رؤية الآخر (بإنسانية أكثر) عن طريق معرفة تاريخه وتراثه، والاستفادة منه. لدينا مهمة ثقيلة لنفهم أنفسنا، ونُفهم العالم من حولنا من نحن فعلاً.