من كان يتوقع أننا قبل اثني عشر سنة وتحديدا قبل حادثة 11 سبتمبر الشهيرة سنصحو وننام ونرتب حياتنا اليومية وشوارعنا ومطاراتنا وفنادقنا ومؤتمراتنا وسفرنا وفيزنا على صوت الخوف من الجماعات الإرهابية التي زرعت داخل أروقتنا محليا وعالميا دون أن نعي مدى تمدد التطرف في كل اتجاه.
الآن يبكي السعودي حسرة على أيام غابرة كان لا يحمل فيها هم الحصول على فيزا ولا يحتاج أن يكون في المطار قبل رحلته بأربع ساعات لإنهاء إجراءات التفتيش ولا يحتاج أن يبقى ساعات في سيارته لإنهاء التشييك على الطرق والمجمعات التجارية والتعليمية والأمنية. تداخلت كل هذه التفاصيل لتخلق عالما صعبا ومخيفا ينثر الرعب في مجتمعات قابلة لتبني الخوف من الآخر كاستراتيجية للتعامل بين (نحن) و(هم) وهذا ينطبق بالطبع على كلانا: نحن والغرب. فنحن هنا نفصل في (هم: الآخرين الغربيين: الكافرين) كما أنهم في الغرب لا يملون من الحديث عن: الآخر: الإرهابي: القاعدي: الداعشي الذي يمكن أن يفجرهم في أية لحظة).
لن نستطيع أن نعطي تفسيرا لكل الأحداث الإرهابية التي تحدث حولنا سواء كانت مخططة ومدبرة كما حصل مع إرهاب 11 سبتمبر أو كانت مفردة كما حصل مع الإرهابي الأخير في كندا الذي حاول اقتحام البرلمان ونجح في قتل أحد الجنود لكن حرس البرلمان عاجله بطلقة أودت بحياته.
تدرك الدولة اليوم أكثر من أي وقت مضى خطورة المد الإرهابي على استقرار المنطقة ككل ولهذا فإن استراتيجيات التحالف الدولي للمساعدة على القضاء على الجيوب الحربية في الدولة الإسلامية وغيرها من جيوب التطرف التي تجري اليوم ضروري لحمايتنا لكن تبقى المهمة الداخلية التي لا يفهم تفاصيلها سوى المحليين أكثر أهمية وأدق عملا وعلى رأس ذلك يأتي النظام التعليمي الذي يدخل إلى كل البيوت ويتحدث كل يوم مع ملايين الطلبة.
نتحدث باستمرارا عن المناهج باعتبار محتواها يحمل الرسائل الأكبر للطلاب وهذا صحيح لكن يبقى المعلم والمناخ الإداري والأنشطة المصاحبة بذات الأهمية لخلق طلاب مفكرين ومسئولين عما يصدر منهم من تصرفات وآراء ومنفتحين متقبلين لما حولهم من اختلافات.
المعلم هو حلقة الحماية الأولى وتذكروا حينما كنتم على مقاعد الدراسة كيف كان مدرسوكم يؤثرون فيكم في ما يقولونه ويتبعونه. كافة البحوث تؤكد أن المعلم (حتى لو كان معلماً خايباً) يظل يملك للأسف تأثيرا على طلابه فيما يقول ويعمل فكيف بمن يأتون مؤدلجين إلى الميدان؟ ولنترك حتى هذه الأدلجة التي قد لا يفهمها أو يحملها سوى عدد بسيط (إن شاء الله) من المعلمين والمعلمات لكن ماذا عن أولئك المعلمين الذين يميلون في الغالب إلى إظهار التشدد والتزمت تأكيدا لنقائهم ونزاهتهم وحرصهم على دينهم كما يرونه فيقدمون ما ربوا عليه من عادات وتقاليد وتفسيرات مغالية أو متطرفة ويرددون ما تم تدريسهم في كليات المعلمين التي ترزح معظمها (وليس كلها) إدارت وهيئات إدارية وأكاديمية تحت تفسيرات محدودة ومحافظة بل متعصبة تتماشى مع التوقعات الاجتماعية الثقافية التي سيطرت على سياسات التعليم وممارساته طوال العشرين سنة الأخيرة.
المناخ المدرسي سيعكس هذا التعصب بالضرورة وتقل قدرته على تحمل الاختلافات ولذا وكما وجدت دراسات أخيرة في المدارس السعودية سهولة زرع فتيل التعصب القبلي والمناطقي والمذهبي والعرقي لوجود أرض مناسبة تؤكد على (نموذجنا) الأوحد والأصح في التفسير وهذا ينعكس على مناخ المدرسة وعلى ما تستقطبه من آليات وبرامج خارجية وعلى الأنشطة والتدريبات المقدمة لطلابها.
نعم: من المهم جدا لطلابنا أن يتم تأسيسهم على مبادئ دينهم الحنيف عبر المدرسة التي تعتبر إلى جانب الأسرة الوسيلة الأكثر أهمية في تثبيت وتأسيس المعارف والمعتقدات الدينية والثقافية واللغوية التي تتطلبها أجيال الطلاب المسلمين لكن في ذات الوقت من المهم أن يتم تعليمهم أهمية الانفتاح على تفسيرات متعددة لذات النص وذات المفهوم ومن الضروري أن يتعرفوا على ثقافات العالم وأديانه وتفسيراته المختلفة ليس من باب أننا صح وهم الخاطئون وأننا أفضل منهم فقط ولكن من حيث التعددية والرغبة في التعايش الآمن عبر ثقافات العالم من خلال قبولنا بممارساتهم كما نتوقع منهم قبولنا وتوفير الأجواء المناسبة لناحين نكون في ديارهم ونجد ذلك عبر ما يتاح لنا من مساجد ومدارس ومؤسسات لرعاية الإسلام في قلب الغرب!.
لا أحد يصدق أن طلابنا خلال العشرين سنة الأخيرة لا يعرفون شيئا عن ثقافات العالم ولا تاريخه الحديث ولا فنونه ولا آثاره ولا ممارساته اللغوية والتراثية وأن أفكارهم محددة جدا في هل هذا حرام أو حلال وهل هذا كافر أو مسلم.
هذا جاء من أدلجة بعض كليات إعداد المعلمين ومن تفريغ المناهج وحشوها بالتفاصيل الصغيرة لتسطيح فكر من يتلقونها ومن المركزية الإدارية في وزارتي التربية والتعليم العالي التي قتلت كل إمكانات المدارس والجامعات في وسطها المحلي ومن عقدة الإداريين الذين لا يكفون شغفا عن استصدار مزيد من القواعد الإدارية المكبلة لحق المعلم والمدرسة والجامعة في إدارة شئونها بمسئولية.
نحن أمام أزمة تعليمية وحضارية حقيقية وحري بنا أن نواجه مسئولياتنا التاريخية عبر نظرة متوازنة بين التأكد من أن المدارس لا تزرع خلايا التطرف ولكن في ذات الوقت أنها تملك ضمن آليات عملها القدرة على التحرك والاستقلالية من مركزية إدارية تكبل مؤسساتنا التعليمية وترمي بها خارج ممارسات العالم التعليمي والأكاديمي التي يعرفها العالم.
التعليم هو اللاعب الرئيسي في معادلة قبول الآخر عبر مكاشفات صريحة تجري على طاولة وزراة التربية ووزراة التعليم العالي حول المعلمين ومحتوى المناهج المختلفة وطرق تدريسها التقليدية والأنشطة المصاحبة لتحمل مزيدا من القدرة على التعايش والقبول لمتغيرات عالم اليوم وخلق طالب مسئول عن تعلمه وهذا سيكون حديثنا للأسبوع القادم.