الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، اجتمع الحجيج على صعيد عرفة يلبون، ويدعون ربهم ويتضرعون، نسوا المال والولد إلا من الدعاء، وحب الدنيا والطمع، إلا على طاعة الله دون مراء.
اجتمعوا وقلوبهم وجلة، سائلين المولى أن يكون حجهم مبروراً وسعيهم سعياً مشكوراً، وتجارتهم تجارة لن تبور، أعينهم إلى السماء مرتفعة، وقلوبهم بالطمأنينة ملتحفة، الدموع تذرف، والأفئدة تخشع، والروح تواقة، والنفس مشتاقة، والحنين ببعد الأنين، والنور يضيء الظلمة فيرى المرء في ذلك المقام أملاً كبيراً، وزرعاً كثيراً، لعل ذلك الزرع يُونع ثمراً جنياً، وجنياً علياً، والبذرة دعاء صادق، وثقة مطلقة في الله عز وجل، بل ويقيناً بأن الله رحمن رحيم، وبعباده عليم، وسيختار لعباده الصالحين الأتقياء حسن الدارين الآخرة والدنيا.
ما أعظم هذه الجمعة التي حل بها يوم عرفة، يومٌ ليس مثل الأيام، فهو يوم الحج الأكبر الذي يكون الدعاء فيه أقرب إلى القبول، إذا صدقت النية، وحسن العمل، وإذا تجاوز الحاج الرفث والفسوق والجدال، وآثر إخوانه الحجاج على نفسه، وتجاوز عن أخطائهم، وأرشد جاهلهم، وأكرم فقيرهم، وساعد ضعيفهم، ورحم صغيرهم، ووقر كبيرهم، وهناك من يقول إن «شاهد» التي وردت في القرآن الكريم هي يوم الجمعة، «ومشهود» هو يوم عرفة، وهكذا اجتمع شاهد ومشهود.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الحجاج يصطفون على صعيد عرفة، لا فرق بين غنيهم وفقيرهم، وذكرهم وأنثاهم، جميعهم يدعون رباً واحداً، إلهاً واحداً، مهما اختلفت ألوانهم، وأجناسهم، وجنسياتهم، ولغاتهم، ولهجاتهم، وأعمارهم، يلبس الرجال الأبيض من الثياب إزاراً ورداء، لا يختلف باختلاف المال أو الجاه، والنساء كذلك متماثلات في لباسهن، متقاربات في هيئتهن، وهذا رمز عظيم من رموز العدل والمساواة بين بني البشر، والمعيار الوحيد في ذلك المكان، وعلى تراب ذلك الميدان، وفي ذلك الزمان، التقوى، والإخلاص، والصدق مع الله في القول والعمل.
كم يكون المرء سعيداً وقد استطاع أن يؤدي فرضه، ويقوم بحق ربه، وكم يكون المرء محظوظاً، وقد اجتهد في دعائه، وألحّ في طلبه وندائه، وكم يكون المرء موفقاً وقد بذل فنال، وأكثر من المقال، وزرع فحصد، وكدّ فسعد.
يا له من كنز كثير حصل عليه، وأجر كبير وصل إليه، كيف لا وقد أتيح له الوقوف في عرفة في هذه الجمعة المباركة.
فبعد الوقوف في عرفة يكون الحج الأكبر قد تم في هذه الجمعة المباركة، وبعد غروب ذلك اليوم العظيم ستسير قوافل الحجيج في تلك الليلة المباركة، بعد نهار ذلك اليوم العظيم متجهة إلى مزدلفة للمبيت فيها، ثم إلى البيت الحرام للقيام بطواف الحج، ومنها إلى منى، ورجم الجمرات اقتداء برسول الله، وبعده طواف الوداع، ثم العودة إلى الديار محفوفين برحمة الله - إن شاء الله -.
لعل الله يلهم الكثير منهم، فيتعلمون من الحج العدل والمساواة، والتسامح والمحبة، والتجاوز عن الأخطاء، لعل الكثير يتعلم من الحج أن الإسلام يدعو إلى الخير، وعمل الخير، ويحث على ذلك، ولعلهم يتعلمون من الحج أن الإسلام يحث على نبذ العنف، والغلو والتطرف، وأن ما يفعله البعض ويمارسه في دول كثيرة بعيد عن قيم الإسلام وتعاليمه، وأن أولئك الذين ينساقون وراء تلك الأفكار الهدامة المرتبطة بالإرهاب، هي آراء لا تمت للإسلام بصلة، ولم تكن وليدة تعاليمه، أو ممارسة المسلمين منذ صدر الإسلام حتى وقت قريب، سوى أولئك النفر الذين ابتلي بهم الإسلام في فترات مختلفة من تاريخه الناصع البياض، نعم، لقد مرت الأمة الإسلامية وغيرها من الأمم في فترات منقطعة من التاريخ بظواهر مقاربة لظاهرة الإرهاب في زماننا هذا، وكان ذلك في أوروبا وأمريكا وآسيا وغيرها، ولدى جميع الملل والنحل في العالم، ولم يكن الإسلام في منأى من ذلك فقد مر عبر تاريخه بفترات مثل هذه، كما كان من الخوارج والقرامطة، وغيرهم، لكن الإسلام استطاع الخلاص منهم ومن نحلهم التي ليس لها أساس من النقل أو العقل.
الإسلام دين الحق وسيظل مهما فعل عددٌ قليل ممن يدّعون الانتماء إليه، وسيظل شامخاً كما كان عبر التاريخ.
سيعود الحجاج وقد امتلأت قلوبهم بالإيمان - بإذن الله -، وسيعودون وقد تزودوا بزاد التقوى - إن شاء الله -، وسيعودون كيوم ولدتهم أمهاتهم، لا تثريب عليهم، وسيعودون - إن شاء الله - وقد قبِل الله دعاءهم ونجواهم، وأثلج صدورهم بتقواهم، وكفّر عنهم سيئاتهم، وسيعودون ليسيروا سيرة الصالحين، ويقوموا بتعاليم الدين، ويسلكوا الطريق المستقيم.
قَبِلَ الله حجهم، وغفرَ ذنوبهم، وستر عيوبهم، وأعادهم سالمين غانمين إلى ذويهم.