تعتمد القدرة التنافسية والثقل الدولي للدولة في العصر الحديث على مدى امتلاكها لمقومات التقدم العلمي والتطور التقني، الذي يتأتى من خلال احتضان الدول لمراكز بحوث متطورة تعمل بناء على قوى السوق والمتطلبات الوطنية الحيوية.
وهذا مما لا شك فيه يتطلب توفير أرضية صلبة تعمل في ظلها وتستفيد من مخرجاتها في مواجهة قضاياها المختلفة، التي تحتاج إلى إيجاد آلية لتوثيق الارتباط بين مؤسسات البحث العلمي والتطوير وقطاعات الإنتاج والخدمات المختلفة لتحقيق أهداف التنمية الشاملة والأمن الوطني.
يُعد البحث العلمي أمراً مهماً للتقدم الاقتصادي والاجتماعي للدولة حيث يتيح تطبيق نتائج البحوث العلمية للدول تحقيق مزايا تنافسية في مختلف المجالات، مما يجعلها أكثر فعالية وقدرة على المنافسة على المستوى العالمي، ومن ثم تحقيق مستويات معيشية أفضل.
أصبحت الحاجة في هذا العصر ملحة لتبني بحوث علمية وتقنية تهدف إلى تطوير وتنمية المجتمع، وتعمل على دراسة مشكلاته وقضاياه برؤى شمولية، وذلك لمواكبة المستجدات الدولية الراهنة. مما يتطلب تبني سياسة للبحوث العلمية والتقنية تعتمد على التعاون بين القطاعين العام والخاص وبين المجتمعين العلمي والتقني. وينبغي أن تهدف مثل هذه السياسة إلى توسعة قاعدة العلوم والتقنية وتطويرها وضمان تعزيز الميزات النسبية لإنتاج السلع والخدمات بما في ذلك الخدمات الأمنية التي تضمن الاستقرار والنمو للنشطات الأخرى، مما يجعل الأمة أكثر اعتماداً على النفس ومرونة لمقاومة التحديات التنموية الناجمة عن المستجدات المحلية والإقليمية والدولية.
في ظل الأهمية المتزايدة لمراكز البحوث والتطوير التي تعمل على تعزيز القدرات اللازمة لاستيعاب التقنيات المتقدمة وتطبيقها في شتى المجالات، فقد سعت الكثير من الدول إلى توحيد جهودها في مجال البحوث والتطوير ضمن منظومة إدارية موحدة تعمل على رسم سياسة البحث العلمي والعمل على تطبيقها بما يؤدي إلى الحد من ازدواجية البحوث وهدر الأموال والجهود.
وقد تأخذ هذه المنظومة أشكالاً مختلفة من دولة إلى أخرى، إما على شكل وزارة أو مجلس أعلى للبحث والتطوير برئاسة رئيس الدولة أحياناً في بعض الدول.
تشير الإحصاءات إلى الانخفاض الكبير لمعدل الإنفاق على البحث والتطوير في الوطن العربي بصفة عامة وفي المملكة بصفة خاصة مقارن بالناتج المحلي الإجمالي إذ بلغ في كل من مصر، والأردن، والكويت (0.4 في المائة)، وفي المملكة العربية السعودية (0.25 في المائة)، وفي قطر، والبحرين، وعمان، والجزائر (0.1 في المائة) فقط، بينما بلغ هذا المعدل في كل من كوريا واليابان (2.8 في المائة)، والسويد (3.8 في المائة).
وفيما يتعلق بنصيب الفرد من الإنفاق على البحوث والتطوير في المملكة العربية السعودية مقارن ببعض مجموعات ودول العالم فقد بلغ (19) دولاراً فقط عام 1996، بينما بلغ نحو (742) دولاراً في الولايات المتحدة الأمريكية، و(678) دولاراً في اليابان، و(380) دولاراً في كوريا الجنوبية، و(360) دولاراً في الاتحاد الأوروبي.
كما تشير الإحصاءات إلى انخفاض نسبة العاملين في مجال البحوث والتطوير إلى عدد السكان في المملكة، والمقدر بنحو (13.2) باحث و(10) فني لكل (100) ألف نسمة.
وتعد هذه النسبة منخفضة جداً مقارنة بالمعدلات العالمية، إذ إن متوسط الدول الصناعية الجديدة يصل إلى نحو (85) و(33.5)، والدول الصناعية نحو (284) و(113)، ودول أمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا (52) و(14)، وذلك لكل من الباحثين والفنيين على التوالي.
الذي يؤكد انخفاض نسبة العاملين في البحوث والتطوير مقارنة بعدد السكان مما يتطلب رفع هذه النسبة لمواكبة التغيرات السريعة التي تشهدها الحركة العلمية والبحثية في عالم متغير لا تتحقق فيه الريادة إلا بالرقي بالبنية التحتية للبحث والتطوير إلى مستوى يستطيع أن ينافس من خلاله على الساحة الدولية. وذلك بإحداث نقلة لمراكز البحوث والتطوير ليمكنها من الإسهام في خدمة التنمية الشاملة المتوازنة والمستدامة في المجالات كافة.
على الرغم من أن الدول العربية لا تزال بعيدة في هذا الصدد، إلا أن لدى البعض منها سياسات عامة لبناء قاعدة علمية وتقنية تدعم مسيرتها التنموية. وقد حققت بعض الدول العربية التقدم في مجالات تقنية محدودة. ومع هذا فإن جهودها في مجال التقنية ما زالت محدودة. ويعتمد البعض الآخر على ما يتم استيراده من تقنيات خارجية.
إيماناً بالدور الحيوي لمراكز البحوث والتطوير في تهيئة الأرضية الملائمة لإحداث التنمية المستدامة، فإن الخطة الوطنية الشاملة للعلوم والتقنية في المملكة العربية السعودية تستهدف رفع معدل الإنفاق على البحوث والتطوير ليصل بحلول عام (2020م) إلى مستوى المتوسط العالمي والمقدر بنحو (1.6 في المائة) من الناتج المحلي الإجمالي. وتحقيقاً لهذا الهدف فإنه يجري توجيه المزيد من موارد القطاع العام نحو البحوث العلمية والتقنية وتنمية القوى البشرية الملائمة في مجال البحوث والتطوير وفق أولويات بحثية وتقنية محددة.
من أجل مواجهة التحديات التي يشهدها القرن الواحد والعشرين بثورته المعلوماتية وتطوراته التقنية فإنه على مراكز البحوث والتطوير أن تعمل بشكل جاد على جلب التقنية واستخدامها وتحديد وتقويم بدائل التقنية، وتنظيم استيراد التقنية، والتصميم الهندسي الذي يطوع التقنية وخدمات المعلومات وبرامج التعليم والتدريب وفقاً لرؤى وطنية، ويعمل لترويج الطلب على التقنية المحلية وتوظيفها لتحقيق أهداف التنمية.
الذي ينسجم مع حاجة المملكة إلى الاستمرار في تدعيم وجود نظام دفاعي وأمني واقٍ وإلى التطوير المستمر للقدرات الدفاعية الذاتية باعتباره واحداً من أهم الأسس الاستراتيجية للتنمية يستدعي الاعتماد المتزايد على القدرات والإمكانات الوطنية للعلوم والتقنية وضرورة استجابة وتلبية المنظومة للاحتياجات والمتطلبات العلمية والتقنية المختلفة لقطاعي الأمن والدفاع بالكفاءة المطلوبة في ظل التحديات الإقليمية الحرجة.
بناء عليه فإن المملكة العربية السعودية في حاجة ملحة لإعادة هيكلة مراكز البحوث والتطوير وتنظيمها بما يؤدي إلى تفعيل الشراكة بينها، والرقي بمستواها وجعلها في مصاف نظيراتها في الدول الصناعية. الذي ينعكس بدوره على القطاعات الإنتاجية والخدمية كافة، مما يجعلها قادرة على التعامل بكفاءة ومرونة مع مختلف متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.